|
( أسمهان و وقائع عام1941) شؤون ثقا فية كان لنا جار في مدينة حماة بداية الأربعينيات من القرن الماضي , يملك حالياً ( فونوغرافاً أو صندوق سمع ) يستخدمه طيلة النهار لسماع أغاني أسمهان بشكل خاص , و بما أن داره كانت من النوع العربي فإن الصوت كان يصل بيسر إلى دارنا . و هكذا تسنى لي أن أستمع بشكل يومي تقريباً إلى أغاني أسمهان القديمة المشهورة من نوع ( مجنون ليلى ) و ( ليت للبراق عيناً ) و ( دخلت مرة بجنينة ) .. الخ و قد كان تأثير الأغنية الأولى ( مجنون ليلى) علي عظيماً إلى درجة أنني لا أزال حتى اليوم , عندما يزورني صديق قديم أو عزيز , لا أملك نفسي من القول في الترحيب به بشكل لا إرادي : - » قيس ابن عمي عندنا , يا مرحبا , يا مرحبا « ! وقد يتساءل أحد القراء عندئذ : » و ما علاقة هذا الكلام بعنوان المقال المسطور أعلاه « ? و الجواب على ذلك هو أن سنة 1941 كانت أهم سنة في حياة أسمهان , حيث إنها في ذلك العام مثلت أول فيلم سينمائي لها ( انتصار الشباب ) , و عرفت أول حب حقيقي لها حيث أحبت مخرج هذا الفيلم ( أحمد بدر خان ) و تزوجت منه , و لو أن هذا الزواج لم يعمر إلا ربيعاً و احداً . هذا على المستوى الفني و العاطفي و المادي , و لكن عام 1941 كان عاماً في منتهى الأهمية بالنسبة لأسمهان , بل و لبلاد الشام أيضاً , حيث لعبت دوراً دبلوماسياً خطيراً أثَّر على مصير المنطقة بكاملها . لقد زعم كثير من الباحثين في سيرة أسمهان الشخصية أنها كانت جاسوسة و عميلة للحلفاء , و بعضهم استند إلى رحلة قامت بها إلى تركيا لكي يستنتج أنها كانت عميلة لدول المحور ( ألمانيا ) و الحقيقة هي أنها قامت بهذه الزيارة إلى تركيا لكي تزور البلدة التي عاشت فيها طفولتها الأولى , حين كان والدها ( فهد بيك الأطرش ) يعمل قائم مقام فيها أواخر العهد العثماني ! و أسمهان لم تكن جاسوسة أو عميلة لا لدول المحور , ولا للحلفاء في أي يوم من الأيام . و لكن أسمهان لعبت دوراً أهم من التجسس و العمالة , و هو » سفيرة فوق العادة « من قبل قيادة القوى الحليفة في الشرق الأوسط ( وكان مقرها في القاهرة ) إلى سكان دولة جبل الدروز خاصة , و دولة سورية عامة . و لمعرفة خلفيات هذه السفارة و حدودها يستحسن إلقاء نظرة على الوضع الدولي في عام .1941 اندلعت الحرب العالمية الثانية في أول إيلول 1939 , وهاجمت الجيوش الألمانية فرنسا في طريق بلجيكا ووصلت إلى أبواب باريس فهربت الحكومة الفرنسية إلى مدينة بوردو ,. هنا بادر الماريشال بيتان إلى مفاوضة الألمان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة فرنسا و مستعمراتها فوقَّع مع الألمان اتفاقية هدنة قضت بتقسيم أراضي الدولة الفرنسية إلى جزأين : >) الجزء الشمالي المطل على بحر المانش , و الجزء الغربي المطل على المحيط الأطلسي , بما في ذلك مدينة باريس يكون منطقة خاضعة للاحتلال الألماني المباشر. >>) الجزء الشرقي المحاذي لألمانيا و سويسرا و إيطاليا والجزء الجنوبي المطل على البحر الأبيض المتوسط , تقوم فيها حكومة فرنسية جديدة برئاسة الماريشال بيتان و تتخذ من مدينة فيشي عاصمة لها , و تكون المستعمرات الفرنسية ما وراء البحار تابعة لها . - و استناداً لأحكام هذه الاتفاقية الألمانية - الفرنسية التي وقع عليها الطرفان في شهر حزيران 1940 , سحبت ( حكومة فيشي ) المفوض السامي الفرنسي على سورية ولبنان (غابرييل بيو ) و عينت مكانه ( الجنرال دنتز ) كمفوض سام جديد . و كان من الطبيعي أن يتزايد نفوذ دول المحور ( ألمانيا وإيطاليا ) في سورية و لبنان خلال النصف الثاني من عام 1940 , و بلغ ذروته أثناء ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق خلال شهر نيسان 1941 . ولهذا أخذت الحكومة البريطانية تفكر جدياً بمهاجمة سورية و لبنان لانتزاعهما من حكومة فيشي الموالية للألمان , وأخذت تستعد لهذه الحملة في مصر و فلسطين و كان أن تم تعين الجنرال و يلسون قائداً عاماً للحملة , و إلى جانبه الجنرال الفرنسي كاترو كقائد لقوات فرنسا الحرة التي كان يرأسها الجنرال ديغول من لندن , و قد أحسنت القيادة الانكليزية باختيار كاترو معاوناً لقائد الحملة حيث إنه قضى أكثر من عشرة أعوام في سورية كمدير لمصلحة المخابرات العسكرية فيها . و هكذا كان كاترو يعرف كل شيء عن مناطق سورية ولبنان , و عن توزع القوات العسكرية فيها , و كان أن نصح القائد العام للحملة بالعمل على استمالة سكان الجبل لمساندة الحملة البريطانية - الفرنسية الوشيكة على سورية ولبنان , أو على الأقل ضمان حيادهم سياسياً و عسكرياً في المعارك المقبلة , لأنه كان لهم حجم سياسي و عسكري في المنطقة. و هكذا كانت قيادة الحملة بحاجة إلى شخصية هامة يمكن أن تؤثر على زعماء العائلات الكبرى في الجبل ( آل الأطرش , عامر , الهنيدي , الحلبي .. ) لإقناعهم بالوقوف إلى جانب حملة الحلفاء المقبلة على سورية و لبنان , أو الحفاظ على الحياد فيها على الأقل و بعد استعراض شامل للأسماء التي يمكن تكليف أصحابهم بالقيام بمثل هذه المهمة تم اختيار أسمهان , و دعم الجنرال كاترو ترشيحها لأنه كان يعرف عائلتها في الجبل , و خاصة ابناء عمومتها مثل سلطان الأطرش و حسن الأطرش و غيرهما . و تمت مفاتحة أسمهان في الموضوع و قبلت هي فوراً هذه المهمة بسبب طبيعتها الطموحة والمغامرة , و كذلك لاعتقادها بأنها تؤدي مهمة و طنية لأرض آبائها و أجدادها بعد أن أفهت بأن هذه الأرض ستدمر على رؤوس أصحابها إذا وقفوا في وجه القوات البريطانية - الفرنسية الحرة عند تقدمها في أراضي سورية و لبنان ! وبالفعل قامت أسمهان برحلتين بريتين من مصر إلى دمشق و السويداء , إحداهما بالسيارة و الثانية بالقطار , و قد قابلت خلالهما نفراً من الزعماء السوريين عامة . و الجبل خاصة , وأقنعت جميع محدثيها بعدم الوقوف في وجه القوات الحليفة , و أقنعت سكان الجبل بشكل خاص بعدم المقاومة من جهة , وحدثت الحملة البريطانية الفرنسية على سورية و لبنان صباح 8 حزيران 1941 , و دامت المعارك بينها و بين قوات حكومة فيشي حتى 12 تموز من العام نفسه و انتقلت سورية من حلم دولة فيشي المتعاونة مع دولة المحور إلى مسؤولية الحلفاء ممثلين بحكومة فرنسا الحرة التي يرأسها الجنرال ديغول , الذي عين الجنرال كاترو مفوضاً سامياً لفرنسا في سورية و لبنان و نائباً مطلق الصلاحية عنه فيها , و قد اعتراف كاترو فوراً باستقلال البلدين ووعد بالجلاء عنها فور انتهاء الحرب . `هكذا نجحت اسمهان في مهمتها لدى أبناء عمومتها في الجبل عام 1941 , فوفرت عليهم و على جند الحلفاء الكثير من الأرواح و الأموال , و هذه المهمة كانت نوعاً من » الوساطة« و » سفارة النويا الحسنة « و لم تكن أعمالاً تجسسية بأي حال من الأحوال . وأما مصرع أسمهان بعد ذلك بثلاث سنوات ( أواسط 1944) فلم يكن تصفية حساب (بين جواسيس ) و إنما كان تصفية حسابات ( بين عشاق ) و الله أعلم !
|