والحقيقة الثانية أن التحقيق تجاوز جريمة واقعة إلى تجريم افتراضي يرتكز على قواعد ومنطلقات سياسية واستدلالات مشبوهة لا تمتلك الحد الأدنى من الصدق والمصداقية ولا الشجاعة الأخلاقية في مواجهة الأحداث وإثبات وقائعها.
فهل بقي للحقيقة من دور في التحقيق?! وهل بقي للتحقيق من دور في خدمة الحقيقة وكشف ملابساتها وأدواتها وأبعادها?!
وهنا لابد من الوقوف عند الفرق بين ترابط الأحداث المزعوم وبين الربط الموجه للأحداث على خلفية المواقف المسبقة والاجتهادات الذاتية والافتراءات المبرمجة على إيقاعات السفارات وتموج مستنقعاتها العفنة.
والحقيقة الثالثة التي تؤكدها جميع المعطيات والتداعيات أن هناك مؤامرة على المنطقة تنطلق من لبنان لتتواصل حلقاتها عبر سورية وصولاً إلى العراق وبقية الأمصار والأقطار العربية وغير العربية لإسقاط القضية العربية ومقوماتها وضرب مرتكزاتها على جميع الأصعدة.
ولم يكن اغتيال الحريري سوى الشرارة في إشعال حريق المؤامرة التي تكشفت أبعادها الخفية على امتداد الساحة العربية ا لمضللة بالنفاق والأبواق وعلى مساحة العالم الضائع في التضليل من دون دليل.
ومن هنا يحق لنا ولغيرنا أن نتساءل عن الحقيقة الموءودة في ركام الزيف والأكاذيب والتي ينتظر الأبرياء قيامتها ويعمل الأشقياء بإصرار واضح من سوء المقاصد والأهداف على ضياعها وتضييعها في متاهات المزايدات والمناقصات السياسية الموجهة والمتوجهة إلى شهود الزور وتزوير الشهادة.
ومن حقنا أيضاً أن نتساءل عن ذلك التناغم المشبوه بين انحطاط الصحافة الصفراء وأدواتها الحاقدة وبين تسريبات الاستحقاق المرسوم وليس التحقيق الموسوم بالسرية المطلقة والموضوعية التي خرجت بتقرير( ميليس) عن موضوعه وعن أبسط قواعد الموضوعية من خلال اعتماده على وجهات نظر محددة لها مواقفها العدائية والعدوانية المعلنة من سورية ولبنان ومن الحريري أيضاً على مدى وجوده في السلطة اللبنانية.
فهل نحن أمام تقرير صحفي أم أمام صحافة تقرر مسار الأحداث ومصيرها بالرغم من سقوطها المعلن وارتهانها المفضوح?!
هذا سؤال يضع التقرير ومعطياته في دائرة الاتهام بجميع الأدلة والوثائق المعلنة في جميع وسائل الإعلام.
لقد سقط التقرير بسقوط شهوده الذين يمثل( محمد زهير الصدّيق) واجهة لهم سواء بسوء سيرته أو بأكاذيبه المستأجرة من بعض القوى التي لم يشر التقرير إليها. وماذا يعني إعلان فرنسا عن كذبه المضلل للتحقيق واعتقاله على هذا الأساس بعد تهريبه من ساحة المؤامرة لأسباب قد يكون وراءها فضيحة كبرى في لعبة المؤامرة.
وفي زحام المعطيات تبرز أدوار لا تقل فضائحية عن دور (الصدّيق) وأشباهه من رجالات الكذب الرخيص وشهادات الزور الممهورة ببصمات زواريب السياسة وتجار الكرامة والدماء.
ومن تلك الأدوار والأدوات سارقو تسجيلات الاعترافات من مخادع أعضاء لجنة التحقيق بالإضافة إلى جوقة الادعاءات والافتراءات الذين تم إعدادهم وتدريبهم في اتجاه الإدانة المسبقة لسورية في جريمة هي الخاسر الأكبر فيها والمتضرر الأول منها.
ومن الإشارات الواضحة التي تلقي ظلالاً من الشك على مصداقية التقرير ذلك الموقف الأميركي الذي يستعجل الإعداد لاستثمار التحقيق قبل صدوره وقبل إعلانه بالضغط على الأمم المتحدة ومجلس الأمن لاستصدار ما يخدم الأهداف الأميركية والصهيونية المعلنة وغير المعلنة في المنطقة.
ومن هنا فإن تقرير (ميليس) لم يكن سوى تصديق لاتهامات مسبقة وإخراجها بصورة تقرير يحمل الصفة الدولية بينما يمارس في الواقع التحليل الذاتي المرتبط بأدوات يشكل إصرارها على اتهام سورية نوعاً من الهروب المبرمج من جريمة أسهموا في ارتكابها ويصرون على التخفي وراء أقنعة الزور والتزوير.
ومن هنا فإن التقرير ليس مسيساً فحسب. بل هو سياسة مقررة قبل ولادة اللجنة الدولية التي وضعت التقرير بقصد الضغط على سورية لاسقاط مواقفها وممانعتها التي تعرقل المخطط الأميركي المتصهين الذي يستهدف وطن العروبة وعروبة المواطن وقضايا الوجود العربي برمته.
ولعل من أهم مؤشرات الضعف في التقرير تلك الهجمة الشرسة والمتسارعة لاستغلال معطياته الزائفة قبل أن يستفيق العالم من غيبوبة التأثير الإعلامي الضاغط والمنظم لمصادرة التفكير والتحليل المنطقي للأحداث والمعطيات الواردة في التقرير الذي يبحث في الاتجاه غير الصحيح عن حقيقة يجري الالتفاف عليها بجميع الوسائل والأساليب وما تقرير (بليكس) ببعيد عن تقرير ( ميليس) فكلاهما من فبركة واحدة وأمركة متوحدة في القرار والتقرير.
فهل يعي الذين خدعوا أنفسهم وشعبهم وضللوا الحق والحقيقة خدمة لأهداف المخطط التآمري على الأمة وحقوقها وقضاياها أنهم لن يكونوا أحسن حالاً من أولئك الذين ارتهنوا لخدمة العدوان الإسرائيلي على لبنان فخسروا لبنان وإنسانية الإنسان?
وليس من خلاف بيننا في اعتبار اغتيال الحريري جريمة كبرى ولكن اغتيال لبنان والمنطقة جريمة أكبر.
والحقيقة لا يمكن أن تغيب إلى الأبد, والتجارة بهذه الحقيقة مصيرها الإفلاس والبوار. وإن غداً لناظره قريب.
عضو اتحاد الكتاب العرب