ما ينبغي أن يتصرفوا حيال أبنائهم, ولكن معطيات التحليل النفسي أثبتت أن الأمر أعمق من ذلك وأن تحديد نوعية العلاقة بين الآباء والابناء أعمق من ذلك وأن تحديد نوعية العلاقة بينهم إنما تعود إلى شخصية الآباء وكيانهم العميق أكثر بكثير مما يعود إلى ما يقولونه ويفعلونه.وهنا نتساءل ما الشروط النفسية التي ينبغي أن تتوفر في الأهل من أجل سلامة علاقة الطفل بهم وتأمين أفضل السبل لنمو سليم, حملنا هذا التساؤل إلى المرشد النفسي والاجتماعي الأستاذ جميل أحمد الباشا حيث قال: يمكنني أن أوجز ذلك بداية في نقطتين هما النضج الانفعالي والانسجام الزوجي.
> ما الذي تقصده بالنضج الانفعالي?
>> إنه عبارة عن كون المرء قد بلغ بالفعل مرحلة الرشد ليس على صعيد العمر أو النمو البيولوجي والقدرة العقلية فحسب, بل على صعيد الحياة الانفعالية أيضاً بما تحويه من مشاعر وميول.
> ما مقومات هذا النضج الانفعالي وتعابيره?
>> إنها قدرة المرء على احتمال الإحباط Frustration حيث يستطيع أن يتخلى عن السعي الوهمي إلى إشباع آني في سبيل إشباع مؤجل ونسبي وقد يكون واقعياً, منها القدرة على تخطي مركزية الأنا egocentrisme لمواجهة الآخر في فرادته والاعتراف به في استقلاليته وإقامة علاقة أصلية معه يتوازن فيها التمايز والاندماج للأخذ والعطاء ومنها وعي للقيمة والقدرات الذاتية يوازيه شعور بالحدود الموضوعية للذات ومنها التعاطي المرن مع الطاقات الغريزية من دون كبت مفرط لها أو انقياد جامح إليها.
> ما الذي تقصده بذلك?
>> كقبول المرء لجنسه الخاص ذكراً أم أنثى والارتياح العميق إليه هذه الصفات إذا توفرت في الأهل, تمكنهم من إقامة علاقة عفوية أصيلة بأولادهم بحيث يحبون هؤلاء من أجل أنفسهم دون أن يستلبوهم أو يسحقوهم, ويوفقون في موقفهم منهم بين القرب والابتعاد, بين الحضور والتواري, في علاقة لاذوبان فيها نعترف بالآخر كآخر وليس امتداداً للذات, إذ كثيراً ما يقع الأهل في مطب تحقيق ما عجزوا عنه في صغرهم من خلال أولادهم فيستخدمونهم مطية لذلك ما يجعلهم يكونون صورة مستنسخة عنهم..?!
هذا النضج الانفعالي يمكنهم من أن يمارسوا تجاه أولادهم سلطة تتجنب بآن واحد فتح التسلط ومنح الاستقلالية المطلقة لأنها نابعة من شخصية منشرحة وواثقة بنفسها لديها استقلالية معينة, لا تحتاج إلى طمأنة ذاتها بالتحكم بالآخر أو بمحاولة التعويض من خلاله من احباطات غير مقبولة لديها, بل تجد ارتياحها في (إنماء) الآخر.
> يقال إن أصل كلمة سلطة هو الإنماء?
>> هذا صحيح حيث إن السلطة الحقيقية تمد الآخر بما تتمتع به من ارتياح وطمأنينة وفي دفعه لطريق اقتدار متزايد يمكنه شيئاً فشيئاً من الاستغناء عن تلك السلطة.
> ذكرت أيضاً أن الانسجام الزوجي ضروري جداً في هذا السياق?
>> ليس المقصود منه كما قد يفهمه البعض بسذاجة أن يكون هناك حالة اتفاق تام (كما يقال سمن على عسل) ينتفي عندها التوتر والخلاف.
فمثل هذا الانسجام عدا عن كونه ضرباً من ضروب الخيال, هو أقرب -إذا تحقق بعد سنوات طويلة- إلى الذوبان منه إلى علاقة أصيلة ناضجة بين ذاتين متمايزتين, إنما ما نقصده بالانسجام الزوجي تناغم عميق بين الزوجين شبيه بهدوء عمق البحر تحت سطحه المتموج يسمح بتخطي الأزمات والاستفادة من الخلافات نفسها في سبيل بناء متواصل لوحدة ديناميكية تغتني بالتوتر وتتعمق به. هذا التناغم العميق, الذي يدركه الطفل بحدسه مع الظواهر المضادة, كما أنه بالعكس يحس بالتفكك العميق بين والديه رغم تجنبهما المتعمد لمظاهره, هذا التناغم العميق يسمح للوالدين بأن يحبا بعفوية ولدهما لأنهما يشعران به على أنه ثمرة اتحاد ناجح وسعيد بينهما, بالمقابل نجد بعض الصور المأساوية لعلاقات زوجية تعترف فيها الوالدة بأنها لا تستطيع أن تحب ابنتها لأنها ثمرة زواجها من رجل تحتقره.
> بعض الأهل يحولون الولد إلى ميدان للصراع بينهما?
>> إن ذلك يمزق الطفل ويحرمه من الاستقرار والطمأنينة اللذين هو بأمس الحاجة إليهما من أجل نمو سوي, من جهة أخرى, فالانسجام الزوجي بين الوالدين هو مصدر انشراح شخصي عميق يؤكد نضجهما واستقلالهما ويغنيهما بالتالي عن محاولة سحق ولدهما تحت وطأة حب استيلائي تعويضي,هذا ما يحدث خاصة للأم التي تكون غير راضية عن حياتها الزوجية.
> هل لديك بعض الأفكار عن دراسات بينت واقع الحال لبعض الأسر في ضوء ذلك النضج الانفعالي والانسجام الزوجي..?
>> هناك دراسات عديدة كتلك التي قام بها د.علي زيعور عن التحليل النفسي للذات العربية أو د.مصطفى حجازي عن سيكولوجيا الإنسان المقهور أو الخندق العميق لسهيل ادريس.
كلها تثبت أن العلاقة بين الوالدين والأولاد تتسم غالباً بظاهرتين هما السلطوية من جهة والحماية المفرطة overprotection surpotection من جهة أخرى ويمارسها الوالدان على أولادهم فينتج عنها اضطراب خطير في العلاقة بين الطرفين, فالولد والحالة هذه لا يحس بأنه محبوب من أجل نفسه ذاتاً مستقلة بل أنه مجرد امتداد لأهله, وأسير لهواجسهم وطموحاتهم بالتالي فهو محكوم عليه بطفولة أبدية ومنسكب ضمن علاقة انفعالية بأهله لا يستطيع أن يركن ويرتاح إليها في أعماقه حتى ولو أرضت لديه بعض النزعات المحدودة regress لأنها تهدد كيانه بالذوبان وتحبط طموحه إلى تأكيد ذاته وبالنهاية سيؤدي ذلك لفقدان الأمان والتمايز لدى الطفل.
> ما الأسباب التي تكمن وراء السلطوية?
>> أولاً: نقص في النضج الانفعالي عند الوالدين وهو عائد للتربية التي تلقاها الأهل بطفولتهم سواء في العائلة التي عاملتهم بمثل ما يعاملون به الآن اولادهم أو في المدرسة حيث كان عليهم أن يتقولبوا بشكل سلبي وفق نظام مفروض ومعلومات تحشى حشواً في اذهانهم.
تلك التربية حرمت الكثير من مقومات النمو السليم, زد على ذلك الشروط الاجتماعية السائدة في مجتمعنا حيث يخضع السواد الأعظم إلى الضغط النفسي وخاصة المرأة التي تتحمل القسط الأكبر من الاستلاب alienation الذي يعاني منه الإنسان عامة بالمجتمع ذلك أن التقييم المفرط للذكورة يسحق المرأة مخضعاً إياها لتبعية ثقيلة تحول دون نضجها وتحكم عليها بأن تبقى قاصرة.
كما أن المجتمع لا يحترمها كفاية إلا لكونها أماً وبالتالي يدفعها لتحقيق ذاتها بشكل حصري في مجال الأمومة ما يؤهب لقيام علاقات غير إيجابية بينها وبين طفلها.
وعندما تتزوج لن تصبح كائناً محترماً إلا إذا وضعت مولوداً خاصة إذا كان ذكراً وكأن المجتمع يريد أن يقول لها وجودك يكتمل لأنك حامل.
وهنا أشير إلى أن الأمومة أمر مقدس وعظيم تماماً ولكن المجتمع ضخم الأمومة بإفراط على حساب بقية نواحي كيان المرأة فلا ينبغي أن ينظر إليها فقط من هذه الزاوية.
> السؤال الأخير والأهم ما العمل لتحسين الصورة?
>> إن افساح المجال أمام الوالدين لاكتساب مستوى أفضل من النضج وذلك بمساعدتهم على وعي العوامل التي من شأنها أن تشوه أو تعكر علاقتهم بأولادهم وأشكال تلك التوعية كثيرة ومنها احاديث نفسية وتربوية تلقي على الوالدين وتليها نقاشات ومنها استشارات حرة مفتوحة للأهل الذين يرغبون في الحصول على مساعدة لمواجهة مشكلات تربوية تعترضهم ومنها اجتماعات للأهالي تحت سقف نشاط اجتماعي معين يتناقش فيه الأهل مع بعضهم بما يعترضهم ويواجههم ويقومونه بحضور مختصين بعد ذلك لتحديد النقاط وسبل علاجها أوضح.
ولهكذا ولاجتماعات كهذه أهمية بين الأهالي ويجب العمل على تنشيطها في الجمعيات والمدارس و.. لأنها تخلق احتكاكاً بين بعضهم البعض ضمن فريق واحد يشعر كل منهم بنسبية وذاتية وجهة نظره ومواقفه ويقاربها بوجهات النظر الأخرى فيصبح ويؤكد ما لديه أو يلغيه تماماً حيث يسهل هنا ملاحظة الأخطاء, إذا رأى أحدهم صورته مضخمة في تصرفات سواه فيتعلم أن يعيد النظر بمواقفه ونوعية علاقته بأولاده كما أن لذلك فائدة كبيرة في شعورهم المطمئن بأن مشاكلهم مع أولادهم ليست وقفاً عليهم وحدهم بل هي مشتركة بينهم وبين سواهم في الفريق الذي يجتمعون معه فإحساس المؤازرة والسعي للحصول على علاجات اجتماعية.