فالرئيس الفرنسي ومن ورائه ما يسمى دول أوروبا القديمة بمعظمها, لم يكن لديها أية رغبة في اتخاذ مواقف معادية لروسيا , كما تشتهي وتريد الولايات المتحدة منها, فلأوروبا مصالحها الحيوية في روسيا والعالم, والتي تتناقض إلى حد كبير مع مصالح الولايات المتحدة , وربما تعلم الأوروبيون الدرس جيداً من أحداث الغزو الأميركي للعراق واستفراد أميركا باستباحة ثرواته ونهبها, دون أن يبقى للأوروبيين حتى الفتات من الكعكة العراقية على خلاف ما وعدت به الأوروبيين الذين وقفوا معها في احتلالها للعراق, صحيح أن الأوروبيين حاولوا إظهار أنفسهم وكأنهم لم يخرجوا عن السرب الأميركي, ولكنهم لم يتمكنوا من تأكيد ولائهم لواشنطن .
فالرئيس الفرنسي ساركوزي كان ذكياً بمافيه الكفاية فقد استطاع التوصل لاتفاق مع الرئيس الروسي ميدفيديف على سحب القوات الروسية من الأراضي الجورجية في غضون شهر, وإرسال 200 مراقب تابعين للاتحاد الأوروبي لنشرهم في مناطق الحدود بين جورجيا وروسيا, وضمان عدم قيام جورجيا باعتداء جديد على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا اللتين أعلنت موسكو وبوجود ساركوزي إقامة علاقات دبلوماسية معهما تأكيداً نهائياً على اعترافها بهما كجمهوريتين مستقلتين عن جورجيا, والخطوة الأكثر إزعاجاً لأميركا الاتفاق الروسي مع هاتين الجمهوريتين الصغيرتين على إقامة قاعدة روسية عسكرية في كل منهما دفاعاً عن استقلالهما وحماية لهما من أي احتمالات عدوانية جديدة عليهما من قبل جورجيا, ورغم الامتعاض الأوروبي .
من هذه الخطوات الروسية إلا أن ساركوزي والاتحاد الأوروبي لم يسمحا لنفسيهما باتخاذ مواقف مناهضة لروسيا, واكتفوا بإدانة الخطوة مع الإصرار على ألا تمس هذه الإدانة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع موسكو بينما أميركا سارعت بإعلان مواقف واضحة في عدائها لموسكو, فوزيرة الخارجية الأميركية كونداليزارايس أعلنت في بيان لها أن واشنطن سحبت الاتفاق النووي الروسي الأميركي من الكونغرس بسبب الأزمة الجورجية.
وأعلن الرئيس بوش تأكيده لهذا الموقف, وردت موسكو بحزم على واشنطن بأنها يمكن أن توقف أي تعاون مع الحلف الأطلسي في حال اتخذ أي خطة لضم جورجيا إليه( واعتبر منح جورجيا وضع العضوية في خطة عمل الحلف سيبدو وكأن الحلف يصطف إلى جانب المعتدي الجورجي( وانعكس التناقض بين الموقفين الأوروبي والأميركي في القرارات التي اتخذها زعماء قمة بروكسل الأوروبية مؤخراً, فالقمة انتهت بقرارات هزيلة فيما يتعلق بروسيا, وجل ما فعلوه مطالبة روسيا بالانسحاب من المنطقة العازلة في جورجيا, وهو قرار اتخذته موسكو مسبقاً لأن سيطرتها على مواقع استراتيجية مطلة في جبال القوقاز في أوسيتيا وأبخازيا على البحر الأسود والبر يسمح لها برصد التحركات الأميركية في البحر ورصد الداخل الجورجي من الشمال إلى الجنوب وعلى عزل العاصمة تبليسي.
في جميع الأحوال روسيا تعرف جيداً كما الأوروبيين أن أوروبا غير قادرة على الاستغناء عن روسيا التي تزود بلادهم بالنفط والغاز, ولايوجد حتى الآن أي بديل , ومن الطبيعي ألا يرتكبوا حماقات بحق أنفسهم إكراماً لجورجيا أو الولايات المتحدة, فالأعضاء القدامى في الاتحاد الأوروبي أصدروا تحذيراً واضحاً بصدد مخاطر انزلاق بروكسل إلى وضع المواجهة مع روسيا ونسيانهم لمصالح الاتحاد الأوروبي حتى أن رئيس وزراء إيطاليا برلسكوني ووزير خارجيته فرايتني صرحاً بكل وضوح حول إنه لا يفهم الجميع جيداً عواقب جر أوروبا إلى حرب باردة جديدة ولم يفسح المجال كثيراً لتنامي الانفعالات المعادية لروسيا, فأوروبا القديمة وفي مقدمتها إيطاليا لا يمكن أن يتعاملوا بدون إبداء الاستياء من الإدارة الأميركية التي أصيبت بنوبة جديدة من حمى الكلام حول الأخلاق الرفيعة,إنهم يعتقدون أن تأثيرهم في الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي الموالين لأميركا شيء قبيح, إن مثل هذه الموالاة لأميركا تثير الانزعاج في نواة أوروبا .
علق السياسي لوكالة نوفوستي أما صحيفة تايمز اللندنية فقد قسمت الاتحاد الأوروبي إلى صقور )بولندا, استونيا, لاتفيا, ليتوانيا, والسويد وبريطانيا و حمائم إيطاليا وألمانيا وبلغاريا واليونان والمجر(. بطبيعة الحال إن هذا الانقسام في الصف الأوروبي لم يصل إلى حد القطيعة ولكنه يعكس بهذا الشكل أو ذاك صراعاً أوروبياً أميركياً تجاه روسيا وآفاق الموقف منها?! وقد عبر عنه برلسكوني بتحذيره أوروبا من الانزلاق باتجاه العداء لروسيا, يجب ألا ننسى أن روسيا الاتحادية تمتلك كالسابق قوة عسكرية وقدرة نووية ضخمة وكذلك النفط والغاز اللذين تحتاجهما أوروبا وسيكون شيئاً أسوأ لو أنها بدأت بتصديرها إلى الصين بدلاً من أوروبا, ولايدرك جميع الزملاء في الحكومات الأوروبية خطورة الوضع واحتمال أن تتطلع روسيا نحو الشرق وليس نحو الغرب , صحيح أن هذا التوجه الأوروبي لا يروق للولايات المتحدة لأنه يقوض احتكارها لأحادية القطب المعلنة من قبلها ولم تنفع محاولات ديك تشيني بإعادة برلسكوني إلى درب البصيرة في معاداة روسيا كما علقت إحدى الصحف, والرئيس ميدفيديف يدرك بعمق أن قدرة بلاده العسكرية والاقتصادية المتنامية ستعيد روسيا إلى المكانة اللائقة بها في الساحة الدولية, ولعل أحداث جورجيا وما أحدثته من تداعيات على العالم وعلى علاقات أوروبا التقليدية خاصة بأميركا, فتحت الباب واسعاً أمام روسيا لهذه المكانة والموقع في عالم لم يعد يحتمل التفرد الأميركي الخطر بمصير العالم..