وعندما بادرت إلى الكتابة كان هذا التعقيب التتميمي الذي جاء مختلفاً قليلاً في عنوانه, وهو ما اقتضاه التوسيع اللازم لملاحظة حالٍ ارتقت منذ أمد إلى مستوى ظاهرة يشعر بوطأة آثارها ومرارة دلالاتها كل من يغشى الوسط الأدبي, ومن يشاركون في المسابقات الأدبية من باب أولى. أول خطوات دراسة ظاهرة ما, هو حصر مظاهرها ثم ربطها فتخريج دلالاتها. وهذه أبرز مظاهر المسابقات الأدبية:
التابو وأدوات النقد الأدبي:
من المعلوم أن الأدب الحقيقي هو مفارقة للواقع مع بقاء شكل من الصلات معه, بمعنى أن الكتابة الأدبية الإبداعية فعل شعوري تكمن أصالته في مدى عمق لحظة انطلاقته من اللاشعور, وعليه يكون من المفترض في العملية النقدية أن تتناول النص الأدبي بأدوات الكشف والتحليل الفني والجمالي التي تبدو غالباً أقرب إلى الوضعية التوصيفية منها إلى الوجوبية المعيارية. ولعل أكثر الكتابات الأدبية سطحية وهشاشة تلك التي خطها مؤلفوها تحت سيطرة الرقيب الحاضر لديهم ذهنياً بسطوة تحكمية قد تأتي أحياناً على كامل الصفة الأدبية لها. ومع ذلك نشهد في كثير من المسابقات تحكيم التابو السياسي أو الديني أو الاجتماعي. ففي إحدى المسابقات تم إقصاء نص لمجرد أنه سرد حال جندي دفعه الذعر إلى الفرار من المعركة, كان تعليق المحكّم بأن الجندي يموت ولا يفرّ. هذه القيمة الإيجابية التي يجب تكريسها..!! - . وفي أخرى يتلقى أديب مشارك اتصالاً هاتفياً من مسؤول ثقافي هنأه خلاله على نصه المتميّز الذي, بحسب عبارته, لم تشهد اللجنة له مثيلاً منذ سنوات, ثم يفاجئه بحصوله على مجرد تنويه لكون الموضوع حساساً مربكاً..!. فماذا سيبقى من ميزة التجاوز والاستشراف للأدب في مجتمعه?!..
التشتت النقدي والتحكيم بالأهواء:
حدث ذات مسابقة أن حصل نص مشارك بحسب أحد المحكمين على درجة 95/100 وهو ما يعني فوزاً مطلقاً بفارق كبير عن الذي يليه, لكن درجة المحكم الثاني كانت 20/100 وهو ما يعني إنكار أية قيمة أدبية له. يومها وقع المنظمون في حرج كبير, ففارق 75 درجة يعني غياب مبادئ وأوليات النقد عند بعض المحكمين, والخلاف بينهم أحياناً لا على القيمة الفنية الجمالية, وهو أمر طبيعي, بل على هوية وجنس النص الأدبي وعلى الصفة الأدبية نفسها, وهنا تكمن الكارثة. ومما يلاحظ الميل الشديد لدى بعضهم, وهم غالباً أدباء أعضاء في الاتحاد, إلى تحكيم النص بميزان تجربته, وتقييم أسلوبه بمبضع أسلوبه, ولا يخفى ما في ذلك من العنت والجحود المفضي إلى إنكار خاصية التجريب والتنوع واتساع آفاق الأدب.
نفوذ الأسماء الكبيرة:
ومما يتكرر وقوعه فوز بعض الأسماء اللامعة, وحدث مرة أن قرأ أحدهم في حفل توزيع الجوائز نصه الفائز, ولدى تساؤل بعض الأدباء والحضور عن أحقية هذا النص بالفوز وهو على درجة من التواضع والتدني, جاء رد منسق المسابقة بالتأكيد على أنه نص الأديب الكبير فلان..!. فرحم الله أسلافنا الذين قالوا إنه بالحق يُعرف الرجال, ولم يدر في خلدهم أن يلعب تناص التضاد لعبته عند أحفادهم فيغدو لسان حال الممارسة - بالرجال يُعرف الحق!!.. وفي هذا السياق بدأت تطفو على السطح محاباة الأصدقاء والمقربين من المشاركين, وقد أعرب مسؤول ثقافي, ذات مرة, علناً بأن اسماً قد فاز لأن فوزه قرر منذ لحظة الإعلان عن المسابقة لكونه.. كما حدث وفاز مؤخراً اسم يعرف الوسط جيداً قيمة تجربته, كما يعرف قوة علاقته مع أحد المحكمين..
غياب الأثر وتعطل الغايات:
مما يفترض في المسابقات من الناحية الوظيفية دعم الحركة الأدبية وتشجيع المواهب الواعدة, وهذا ما لم يتحقق إلا في حدود الدعم المالي الضئيل بحجم مبالغ الجوائز الهزيلة. أما الدعم الأدبي ورعاية التجارب الجديدة بالنقد البناء الكفيل بضمان التطور فغائب تماماً, في كل مسابقة يغلب على حفل توزيع الجوائز الطابع الاحتفالي البروتوكولي, كلمات على المنبر لا علاقة لها بالأدب والثقافة, كلمات مقتضبة لأعضاء لجان التحكيم قابلة لأن يتم اختصارها أو تجاوزها, تصوير لا ينتهي, ثم كل مسابقة وأنتم بخير, والأديب المشارك كالضائع بين فرحة الفوز وفائدته, فلا يستطيع إن كان فائزاً أن يعلم أسباب فوزه فيعمل على تعزيزها, ولا أن يدرك سبب عدم فوزه فيتلافاه في تجاربه المقبلة.. تلك بعض المظاهر التي تؤكدها عشرات الوقائع التي تكاد أن لا تخلو من وقوعها مسابقة, دون أن يعني ذلك التعميم المطلق, وقد يكون من المفيد وضع المسابقات تحت المراقبة من خلال نشر نتائجها ونصوصها الفائزة في وسائل الإعلام, وهو ما قد يضع المنظمين والمحكمين أمام مسؤولياتهم, لكن ذلك لا يعدو ان يكون خطوة إجرائية بسيطة, فأزمة المسابقات ليست في الحقيقة سوى واحدة من النتائج الطبيعية التي تفرزها أوضاع الأدب والثقافة, فالنخبوية والكمالية التي يُؤطر فيهما على الصعيدين الرسمي والشعبي, وتقطّع الروابط بين الثقافي والاجتماعي, ظاهرة لا يمكن معالجتها مطلقاً بمجرد حلول إجرائية.