تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عام جديد

آراء
الأثنين 15/9/2008
جلال خير بك

بدأ العام الدراسي, وفتحت المدارس أبوابها في هذا الجوّ القائظ, وتوافد التلاميذ والطلاّب إلى الصفوف, فعادت إلى تلك الأبنية حيوية افتقدتها طيلة شهور..وبدأ نهر المعرفة بالجريان.

ورغم ماقيل ويقال عن أحوال المدارس والمعلمين, فإن الأجيال القديمة تحسد الطلاب على مايتوفر لهم الآن!‏

كانت سُبل العلم في العقود الماضية التي سبقت الستينيات بسيطة جداً, بل مضنية إلى حدّ كبير, وبشكل خاص في الأرياف. ففي ريف اللاذقية بمعظمه لم تكن تتوافر سبل التعليم مابعد الابتدائي إلا لقلة نادرة ما يضطر الطلاب إلى مغادرة أهلهم والسكن في مركز المحافظة أو مدن المناطق ليتابعوا دراستهم الإعدادية أو الثانوية..وكان ذلك معضلة للأهل وأبنائهم في آن, حيث تكون الحاجة المادية مهمة وصعبة..فالطالب بحاجة إلى مسكن وإلى نفقات الطعام وأثمان الكتب ومستلزماتها.‏

وفيما أذكر فإن جيلنا في الخمسينيات وماسبقها كان يرتاد المدارس بظروف صعبة جداً, إذ إنّ المناخ في تلك الأيام لم يكن دافئاً أو حارّاً مثله في هذه الأيام..بل كان برد الخريف وزمهرير الشتاء يقصّ المفاصل!..ويومها لم تكن المدارس قد عرفت بعد, نعمة المدافئ ومايتوافر للطلاب اليوم..فالثياب الشتوية كانت حلماً صعب المنال.. ومعظم التلاميذ يومها كانوا حفاةً يصارعون البرد والأمطار!‏

وعلى صعوبة الظروف العامة آنذاك..لم تبخل الأيام على التلاميذ بالمعلمين الذين كانوا فعلاً المثل الأعلى..فتختلط المعرفة آنذاك بالبرد وشآبيب المطر التي لاتتوقف!..وعلى مقدرة المعلمين حينها وعلى غيرتهم وحسن عطائهم. لم تكن حالهم بأفضل من الطلاب والتلاميذ! إذ كان الراتب ضئيلاً ورغم ذلك يكفي!‏

كان للمعلم في تلك الأيام, هدفٌ أساسيّ هو أن يخلق من هذه الأجيال جيوشاً من المتعلمين..وأن يغذي المعرفة فيهم قدر استطاعته, بل لعلّ الأهمّ: ألا يكون واحد منهم فاشلاً..فكثير من المعلمين كانوا يدورون ليلاً على البيوت ليتأكدوا من دراسة تلامذتهم مهما تحالف عليهم الفقر والظروف العامة ولاسيّما ظرف المناخ!‏

نتذكر ونحن صغار في مدارس القرى: أن المقاعد المعروفة اليوم مقعد لكلّ اثنين لم تكن موجودة في تلك الأيام, بل كانت مقاعد طويلة يتسع الواحد منها لستة أو سبعة تلاميذ وربما أكثر!..ولم تكن الصفوف التي تدلف شتاء..تعرفُ العددَ المثاليّ اليوم..وكانت النعمة الأكبر تحلّ عند وصول الكتب المدرسية التي غالباً ماتتأخر وقد تكون أقلّ من العدد أحياناً!‏

ولئن قيل: كاد المعلم أن يكون رسولا..فإنه قول حقّ..فالمعلم آنذاك, مناضل حقيقي..يواجه الفقر بدوره ويعطي تلاميذه خلاصة نفسه وعلمه في ظروف أصعب من النحت في الصخر..ولانزال نذكر في ابتدائية القرداحة معلمين أوائل كان لهم الفضل الأكبر في حياتنا التي رسمتها الأيام بعد ذلك..فمن علي عيد الخير إلى محمد علي أحمد حسن (العيلة) إلى عبد الحميد الخيّر وعدنان اسماعيل وروبير الدكر وسواهم.‏

أما بعد أن تجتاز الأجيال, المرحلة الابتدائية فتتجه إلى ثانويات اللاذقية أو جبلة حيث تتعرف هناك على رعيل جديد من المدرسين..ففي التجهيز جول جمال حالياً كان أساتذتنا أعلاماً, ولاتزال تعلق في الذاكرة أسماء بعضهم مثل أحمد عيد الخير - عطا نعيسة - فؤاد منصور - عبد الوهاب عيسى - عزت جيفي - ممدوح قشلان. وفي ثانوية جبلة تألقت أسماء عدد من المدرسين الذين لاتنساهم الأجيال, منهم: أسعد صقر - داؤود داؤود - رامز مسّوح - لبيب نصير - نذير اللوجي - محمد أديب القسام - بشير غلاونجي - علي ياسين - رفيق معلاّ - محمد حسن شعبان - محمد علي اسبر .. وآخرون لاتسعفني الذاكرة بأسمائهم الآن.‏

وفي المدن اختلفت الأمور, وصار وضع المدارس أفضل..فبتنا نجلس على مقاعد جيدة (مقعد لكل اثنين) في أبنية اسمنتية لاتدلف وذات نوافذ عريضة..ونرى أساتذة متخصّصين بعد أن كان معلّمٌ واحدٌ (في الابتدائي) يعطينا الحصص جميعها..ووسائل إيضاح عديدة..ومختبر وثمّة باحة بالمعنى الحقيقي..وارتحنا من دلف السقوف, وعرفنا الدفء في فصل الشتاء..وتغيّرت الصورة القديمة التي رأيناها في مدارس القرية, فعرفنا اللباس الشتوي وحتى المظلاّت!‏

إن الظروف التي مرّ بها التعليم في هذه المحافظة (اللاذقية) كانت صعبة - على روعته التي شاهدها أبناء الريف - ومع ذلك فقد خرّجت تلك المدارس أجيالاً جيدة دفعها حبها للتعلم, إلى رحاب جامعة دمشق حيث تخرّجت تلك الأجيال باختصاصات مختلفة من الطب والرياضيات واللغات وباقي الفروع العلمية والنظرية.‏

ولابدّ من القول هنا: إن للتعليم ظروفه وعوائقه التي يعاني منها..غير أنه في المحصلة ودون شك نعمة كبيرة. وما يُنفق على الطلاب اليوم هو بمثابة المعجزة لجيلنا..وقد كان أحمد شوقي محقاً جداً عندما قال:‏

قم للمعلم وفّهِ التبجيلا‏

كاد المعلم أن يكون رسولا‏

وكيفما كانت الظروف الحالية والصعاب التي تواجه العملية التربوية )والتعليم جزء منها( فإن التعليم بخير, ويكفي النظر إلى العدد الهائل الذي تستوعبه المدارس اليوم, في أبنية حديثة جيدة الأثاث والوسائل, ينعم فيها الطلاب بين مدرسين باختصاصات مختلفة, وينعمون أكثر بهذه المنحة الكبرى التي تُسمّى )مجانية التعليم(.‏

سقى الله تلك الأيام وصعوبة الدراسة فيها..وأدام النعم التي شهدها التعليم في العصر الحالي والتي لاينقصها سوى تحسين أوضاع المعلمين والمدرسين, في رحابها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية