وبعد سنين في أواسط الستينيات ابتدأت النشر في جريدة (الوحدة) الدمشقية، وقد تحولت إلى جريدة (الثورة). ولا أذكر لسنوات أني قد تقاضيت أجراً لما أكتبه، فقد كنت مع الآخرين نعتبر أن النشر هو المكافأة.
وكان قد صدرت في حينه مجموعة لي بعنوان (قصص) عن دار مجلة شعر البيروتية، والتي لم يذكر عنها أي خبر أو تعليق في الصحافة، إلا أنني فوجئت بمقال كتبه (زكريا تامر) في الملحق الثقافي (الموقف العربي) الصادر عن جريدة الوحدة. كانت المقالة تتسم بهجوم حمل رؤية نقدية على مجموعة القصص. وفي رحلة إلى دمشق قمت بزيارة إلى مبنى الجريدة بحثاً عن زكريا تامر الذي لم أكن قابلته من قبل. قرعت بابه الذي علمت أنه لم يقفل في وجه أحد، وكان وحيداً في غرفته، فألقيت التحية ولكن انهماكه في العمل منعه من الإجابة. بعد لحظات حمحمت فتطلع إلي وسأل من خلف عدستي النظارة السميكتين عن طلبي، فإذا قلت له اسمي، هبّ واقفاً وهو يرحب بي داعياً إلى الجلوس. وكان أن افتتح الحديث بأن المقال الذي كتبه عن المجموعة كان بدافع ألم أسنانه، فأجبته بقولي أن الغرض من زيارتي هو الإعجاب الذي أحمله له، وأن ما كتبه هو حق له. وهكذا ابتدأت صداقتي القوية لزكريا تامر والتي ما زلت أعتز بها. كنت أتابع ما كتبه من قصص قصيرة مدهشة، وكذلك الزوايا الصحفية التي تبادل موقعها اليومي مع محمد الماغوط، وهي على ما أعتقد من أبرز ما قدم من زوايا في الصحافة السورية والعربية في الخارج. ومازلت أنظر إلى هجائه الاجتماعي والسياسي الذي نسج أدبه على نوله الذي تفرد به، كان يكشف عن نقمته على ما هو سيء وقبيح وهي نابعة من وعيه وصفاء روحه، فالطفل بداخله الذي كان في إهاب نمر، لم يتخل عن براءته في الكشف عن عيوب تاريخية ومعاصرة، شخصية وجماعية، فكان واحداً من كتّاب الهجاء في إطار البناء.
وأعود من جديد إلى استعراض ما كنت كتبته في الستينيات في مجلة أسبوعية صدرت في حلب، هي (السنابل) التي تحولت إلى (الناس)، والتي كانت لصاحبها (فيكتور كالوس) ورئيس تحريرها الذي كان يكرمني من دون آخرين بفنجان قهوة. وقد كانت لزاويتي الأسبوعية بقلم (جاروف) بالإضافة إلى عدد من القصص التي حملت اسمي. وفي تلك الزاوية حملت بلا هوادة أو بشيء على فنانين من حلب ممثلين ومخرجين وقليلاً من الرسامين. وكنت آنذاك أظن أن الشراسة في الكتابة ستمنحني القوة في احتلال مركز بين المثقفين. وإذا مرت السنين هدأت فورتي، وعدت إلى نفسي أراجعها. الكتابة لا تعني أبداً الهجوم على الآخرين أو المصالحة، بل هي المشاركة في بناء ثقافة وطنية.
وهكذا بدأت منذ زمن أراقب المديح المجاني الذي يصبه البعض على أعمال كتّاب، على أنه نوع من الإساءة إلى الثقافة دون أن يبحث عن جوانب يكشف جمالها أو قدرتها على استشراف مستقبل واعد فيها.