تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


السياحة الأدبية

ملحق ثقافي
2/6/2009م
• ريندي مالاميد ترجمة: د. علي محمد سليمان

تطورت السياحة الأدبية عبر مراحل من العصر الحديث ووصلت إلى حالة من التضخم والتعقيد بحيث لم تعد تختلف في آليات عملها عن أي مجال اقتصادي آخر تتعدد فيه المصالح والاستثمارات.

وفي التطورات التي تمت عبر فترات متعددة بدأت منذ القرن الثامن عشر يمكن تسجيل لحظة فارقة وهي المرحلة المعاصرة من عمر هذه الظاهرة. ففي المرحلة الراهنة استقلت السياحة الأدبية عن السياق الثقافية البحت وتحولت إلى صناعة تتداخل مع آليات السوق. ونتيجة لذلك، أنتجت هذه الظاهرة خريطة جغرافية للتاريخ الأدبي لا تتطابق مع النصوص والحقائق، بل أنها تختلف عنها بشكل متعمد، وفي حالات عديدة تزورها وتحورها لصالح الاستثمارات المالية ودوافع الربح المالي. فما هي مشهد الخريطة التي ترسمها مئات المواقع والمتاحف الأدبية التي نشأت وتطورت من مواقع ولادة أو حياة أدباء كبار؟ هل تتطابق هذه الخريطة مع التاريخ الأدبي، أم أنها محض اختراع مؤسسات تجارية؟!‏

بدأت ظاهرة زيارة قبور وبيوت الأدباء الراحلين في القرن الثامن عشر في أوربا. ومع تطور هذه الظاهرة نتيجة لعوامل عديدة أدت إليها الحداثة الأوربية نتج في المخيلة خرائط جغرافية تقترن بأسماء أدباء وكتاب عبروا في الأمكنة. فأصبح هناك مناطق وأقاليم مثل ريف شكسبير”، منطقة بحيرات ووردسوورث، لندن تشارلز ديكنز، باريس موليير وغيرها من الأقاليم الأدبية.‏

وتقول الناقدة البريطانية نيكولا ج واتسن في هذا الشأن أن السياحة الأدبية في شكلها الراهن عملية تتناقض في جوهرها مع متعة القراءة الإبداعية للنصوص الأدبية ومع مخيلة القارئ في علاقته مع الأدب والأدباء.وتشير الناقدة إلى ذلك الإحراج الكبير الذي تسببه السياحة الأدبية والحج إلى الأماكن المزعومة التي عاش فيها الأدباء. إنه إحراج وخيبة كبيرة يشعر بها المختصون والنقاد. ففي عصر رولان بارت وجاك دريدا ماذا تبقى للناس ليكتشفوا في تلك الأمكنة والمتاحف؟! لم يتبق شيء من الهالة أو ذلك السحر المصطنع في عصرنا هذا بعد بارت ودريدا إلا بانسبة للزوار الساذجين والبسطاء الذين لا يعرفون شيئاً عن الأدب.‏

وفي الحقيقة يرى جاك دريدا نفسه أن المشهد الذي يراه السائح إلى أي موقع أدبي إنما هو نص ثانوي خطير. وخطورة هذا النص تنبع من أن تفاصيل الصورة التي يقدمها المكان عن شخصية أدبية راحلة هي في غالب الأحيان تزوير وتحريف للصورة الأصلية وممارسة لفرض نمطية وشكل معين تنتجه المؤسسات السياحية. وتبرز هنا قضية أخرى وهي ملكية المواقع السياحية الأدبية. فالسياحة الأدبية في واقعها المعاصر كثيراً ما تمارس تحويرات رخيصة وإضافات تزيينية على التراث النصي والشخصي للأديب بهدف رسم صورة ملائمة تستطيع جذب الزوار والسياح. فمن هو المسؤول عن حفظ تراث الأدباء، ومن هم في حقيقة الأمر الزبائن المعنيون بزيارة المواقع الأدبية في العالم؟ هل هم المتخصصون والمهتمون وقراء الأدب، أم أنهم عامة الناس؟‏

لقد أصبحت الصورة السياحية عن الأدب مبسطة ومسطحة للغاية، لأنها في حقيقة الأمر صورة مصنعة خصيصاً للاستهلاك العام. إن خطورة الأمر تتعلق بمسألة الأصالة والمصداقية. ففي حين أن الأكاديميين والنقاد يضعون المصداقية والأصالة معياراً أساسيا لعلاقتهم بالتراث الأدبي، تمارس المؤسسات السياحية دوراً ومعايير مختلفة كلياً. فالأصالة والمصداقية في التوثيق ليست أبداً معياراً في عمل المؤسسات السياحية التي تستثمر الأسماء الأدبية لتحقيق أرباح مالية طائلة. إن بين دانتي في فلورنسا على سبيل المثال ليس إلا بناء حديث يعود إلى القرن العشرين. إن هذا البناء يقلد صورة بيت دانتي الأصلي. إنه تقليد وليس حقيقة كما يتوهم الزائرون. وحتى مكان ولادة ويليام شكسبير في ستراتفورد، قبلة السياحة الأدبية، ما هو إلى مكان أعيد بناؤه في العصر الفيكتوري ليقدم صورة تشبه المكان الذي عاش فيه الشاعر العظيم. فهل يمكن اعتبار هذا المكان مرجعاً ذا مصداقية يعمق معرفتنا بشكسبير؟ وماذا عن جيمس جويس الذي تحول اسمه إلى وسيلة لجذب السياح إلى أمكنة حديثة في دبلن لم يعرفها الكاتب أو يمر فيها في حياته!‏

تبدو كل الأصوات التي تعلو محذرة من الممارسات التجارية التي تقوم بها المؤسسات السياحية في مجال استثمار التراث الأدبي محقة في جانب ما. يتعلق هذا الجانب بموضوع المصداقية وضرورة حماية التراث الأدبي من حيث هو وسيلة معرفية تساهم في تعميق تجربة القراءة وفي تطوير معرفتنا بالتاريخ الأدبي. لا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة هي أن السياحة الأدبية ظاهرة عريقة يمكن لها أن تمارس دوراً ثقافياً واقتصادياً هاماً ومفيداً، ولكن بشرط أن يكون عملها محدداً بمعايير لا تخالف المصداقية والأمانة التاريخية. إن ظاهرة ارتباط الثقافة بالاقتصاد هي بحد ذاتها عملية هامة في تطور المجتمعات، ولعل تحول التراث الأدبي إلى رأسمال يساهم في التطوير والتنمية الاقتصادية هو بحد ذاته إنجاز حضاري يجب تفعيله. لكن هذه المسألة المعقدة تحتاج إلى تضافر جهود تستطيع أن تحول السياحة الأدبية إلى حقل ثقافي- اقتصادي مغاير في آليات عمله لآليات عمل الأسواق الأخرى، إذ أن غياب الثقافة عن السياحة في هذه الحالة سيحول التراث الأدبي إلى فضاء غير محدود من التزوير والتحريف.‏

• عن مجلة كرونيكل ريفيو الأمريكية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية