تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عن حسيب كيالي والمريدين ثانية

ملحق ثقافي
2/6/2009م
خيري الذهبي

في أحد المؤتمرات الروائية العربية، وكنت قد ألقيت محاضرة تحدثت فيها عن الكاتب الروائي السوري العظيم لوقا، أو لوقيانوس السميساطي،

وقلت فيه إنَّ لوقا في روايته المبكرة (قصة حقيقية) قد ابتكر الأخيولات (الفانتازيات) التي سيستعيرها مؤلفو ألف ليلة والملك سيف، وعجائب المخلوقات مثل طائر الرخ العظيم وبيضته بحجم القبة، والحوت العملاق حتى ليظن البحارة حين يرون جزيرة نبتت عليها الأعشاب أنها جزيرة، فينزلون عليها ويشعلون ناراً فتهرب الجزيرة بتأثير الحريق، ليكتشفوا أنها حوت. و.... الأشجار التي تحمل ثماراً من نساء إلخ.‏‏

بعد المحاضرة التقيت بالناقد المصري الكبير صلاح فضل ليقول لي: إني بمحاضرتي هذه قد قدمت له تفسيراً عن تساؤل شخصي طالما تساءله وهو: كيف استطاع الشاعر (الأدلبي) الكبير أبو العلاء المعري في رسالة الغفران وهو الأعمى أن يكتب عن أشجار تثمر حوريات فاتنات!! في الجنة!!‏‏

طال الحوار وتناقشنا في تبادل الكتاب أحذيتهم عبر التاريخ، وأن كاتباً من قرن ما قد يستعير حذاء كاتب سابق عن وعي، أو عن غير وعي، وأنَّ هذه هي سنة الكتابة، وحين استخدمنا تعبير الكاتب اللاحق يلبس حذاء الكاتب السابق فإنما كنا نستخدم تعبيراً إنكليزياً شهيراً، فلان لبس حذاء فلان أي أنه قد تأثره، وسار على منواله، وقلده، أو كان استمراره، وهذا كما أسلفت سنة الكتابة عبر التاريخ، وقديماً قال عنترة: هل غادر الشعراء من متردّم... أي أنَّ من الصعب عليه أن يأتي بما لم يقله من سبقه من مقولات، أو أساليب.‏‏

وفي مقال كنت قد نشرته مؤخراً في جريدة تشرين كنت قد تحدثت عن تكرار التاريخ نفسه، ولكن في المرة الأولى على شكل تراجيديا، أما في المرة التالية، فعلى شكل فارس، ثم شرحت كلمة فارس بأنها بمعنى المهزلة، أو مسخرة، ولكني لم أكتبها بصيغتها الأوروبية، أي بالأحرف الإنكليزية مثلاً، فجاء من قرأها على أنها فارِس بكسر الراء بمعنى راكب الحصان، وحين نوقشت في هذا تذكرت أني قد وقعت في مطب طالما حذرت نفسي والآخرين منه أي أن أفترض أنَّ ذاكرة الكاتب هي ذاكرة القارئ، بمعنى أن أقع في مطب المقولة (المعنى في قلب الشاعر) فما دام الشاعر يعرف الفكرة، فعلى قارئه أن يعرفها!! وهكذا جاء من قرأ مقولتي إنَّ كتّاب إدلب يتمنون أن يلبسوا حذاء حسيب كيالي على أنها هجاء وهي ليست إلا رأياً نقدياً ليس فيه من الهجاء أو المديح شيء.‏‏

أبو العلاء الإدلبي (المعري) العظيم لبس حذاء لوقا السميساطي، وحسيب كيالي تمنى، ـ ... وكتاباته الساخرة، أو التهكمية، أو رؤيته الكلبية للحياة، والكلبية هاهنا أعلن أنها ليست هجاء أو قدحاً، بل هي تعبير فلسفي إغريقي معروف يعني السخرية من الجديات والأمور الجدية، وكل شيء ـ ... حسيب كيالي تمنى أن يلبس حذاء المعري أي أن يتأثره، وليت حظه وحظ قراء حسيب كيالي كان عظيماً، فقرأنا لحسيب رسالة غفران فيها كل تأثيرات المعري، ولكنه لم يفعلها.‏‏

نجيب محفوظ الروائي المصري العظيم ومن ليس بحاجة إلى تعريف حين كتب ثلاثيته الشهيرة، فإنما كان يلبس حذاء الكاتب البريطاني غولز وورثي في روايته الشهيرة (ملحمة أسرة الفورسايت)، وحين كتب ميرامار فإنما كان يكتب معارضة ـ والمعارضة هاهنا تعبير نقدي، وليس سياسياً ـ لرباعية الاسكندرية للإيرلندي لورانس داريل، وليس في هذا أي عيب أو هجاء. وكتّاب إدلب بدءاً بنجم الدين السمان وخطيب بدلة حتى لا يعتب خطيب بدلة وعتبه غال ولا أحتمله، ومروراً بالكتّاب الذين أقرأ لهم بحب؛ تاج الدين موسى ونجيب كيالي وابتسام التريسي وعبد الرحمن الحلاق حين يلبسون حذاء حسيب كيالي فليس في هذا أي انتقاص أو مذمة لهم. فحذاء حسيب جدير باستعادة لبسه كما كان حذاء المعري جديراً بالاستلباس (حلو التعبير؟!!) وكما كان حذاء لوقا السميساطي جديراً باستعادة اللبس.‏‏

وأنا أعلن هاهنا أني أتمنى لو لبست حذاء حسيب كيالي، فقد كان لهذا الرجل تاريخ من مصادفات معي، ففي ستينيات القرن الماضي وكنت شاباً يافعاً منتفخاً بالحس بالأهمية، غارقاً في قراءة الأدب العربي تراثياً ومصرياً، وفي قراءة الأدب العالمي عبر اللغة الإنكليزية أو الفرنسية، وكنت في مصر قريباً من منجم رائع هو سور الأزبكية الذي كنت أزوره مرة أسبوعياً على الأقل إن لم يكن ثلاث مرات أو أكثر ولم أكن ـ ولست أقولها متبجحاً، بل خجولاً ـ لم أكن قد قرأت حرفاً واحداً لكاتب سوري، بل كنت جاهلاً لدرجة أني لا أعرف أن هناك أدباً سورياً!! وأرجو أن يعذر القارئ ذلك الفتى المغتر بنفسه ابن العشرين!!‏‏

في إحدى تلك الزيارات رأيت مجموعة قصصية تحمل اسم (أخبار من البلد) بتوقيع رجل لم أعرفه قبل ذلك الحين هو حسيب كيالي. فاشتريت المجموعة بقروش قليلة، وكانت المفاجأة؛ لقد اكتشفت فجأة كاتباً كبيراً حملني مرة واحدة من معتزلي غير العاجي إلى جنة الأدب السوري... وأحببت الرجل و.... تمنيت أن ألبس حذاءه. وها أنذا أعلن أني أتمنى أن ألبس حذاء دوستويفسكي رغم أن رائحته فاحت لطول العهد به. وأتمنى أن ألبس شعار فولكنر، والشعار (هو القميص الداخلي القطني) وأتمنى أن ألبس جبة الجاحظ، وأتمنى أن ألبس قبعة أو عقال مؤلفي ألف ليلة وليلة، وأتمنى أن ألبس جوارب الأصفهاني مؤلف الأغاني. و.... في المحصلة الأخيرة فأنا وكل كاتب كبر، أو صغر ليس إلا مجموعة أمنيات أو محاولات، أو ثياب استعارها من كتّاب سبقوه.‏‏

أرجو أن يكون فيما تقدم تفسير لأمر كنت قد قلته في مقابلة تلفزيونية عن حسيب كيالي وكان المثير للالتباس فيه أني افترضت أن ذاكرة القارئ هي ذاكرة الكاتب فكانت النتيجة أن قرأوا كلمة فارس Farce على أنها الفارس سيد الخيول!!!!!، والإشارات الأخيرة هي إشارات تعجب .... وأرجو أن يكون هذا مفهوماً منعاً للالتباس.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية