تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المثاقفة والخطاب النقدي العربي

ملحق ثقافي
2/6/2009م
محمد الحوراني

يمكن القول إن معظم ما كُتب عن إمكانية التأسيس لنظرية نقدية عربية،وكذلك الحديث عن النقد العربي المعاصر، لم يكن سوى اجترار لمقولات نقدية غربية، استطاع الباحثون والنقاد العرب تشذيبها وتجميلها ،رغبة منهم في إظهارها على أنها سبق نقدي لم يُسبقوا إليه.

ومع أن أحدا لا ينكر جهود بعض النقاد والباحثين العرب في تطوير النقد العربي والتأسيس لنظرية نقدية عربية معاصرة،إلا أن الكثيرين من المهتمين بالنقد العربي المعاصر يدركون تمام الإدراك تطفل النقد العربي المعاصر على النقد الغربي ومدارسه،علما بأن هناك إمكانية كبيرة لتطوير النقد العربي والنهوض به بالاعتماد على التراث النقدي العربي ، ويرى محمد مندور أنه لدى العرب في تراثهم، نقد منهجي مفصل لم يضع الأوربيون خيراً منه.‏

ويؤكد عبد العزيز حمودة هذه النظرة،ناصحا في الوقت نفسه، النقاد العرب بـ «القيام بعملية غربلة دقيقة وتنقية واعية لتراثنا اللغوي والنقدي من كثير من تناقضاته وتداخلاته قبل أن نضع أيدينا على النظرية النقدية العربية»‏

.ما يراه مندور وحمودة لا يتقاطع مع آراء كثير من النقاد والباحثين العرب فـ جابر عصفور ،مثلا، يرى أن الذين يطالبون بأن يكون لدينا مدرسة نقدية عربية يشبهون هؤلاء العرب الذين يطالبون بأدب إسلامي .. وعلم نفس إسلامي وطب إسلامي .. فإذا تأملنا الخطاب النقدي لهؤلاء سنجده عالة على مدارس نقدية أجنبية و الحل كما يقول د.عصفور في أن يكتفي الناقد العربي بدور المضيف وتكون الإضافة من خلال :‏

- الأسئلة التي يطرحها الناقد على المنهج .. ومن الهموم التي نعانيها في واقعنا .‏

تحديد الأولويات لا على أساس الاستجابة الحرفية على نحو ما لدى الناقد الغربي.. ولكن على نحو يتلاءم مع ظروفنا نحن.‏

وأمام هذه السجالات النقدية التي وصلت في كثير من الأحيان إلى درجة التسفيه والإقصاء والتكفير، يرى الباحث عن النقد العربي المعاصر نفسه تائها وسط غابة من الذئاب المسيطرة على الساحة النقدية العربية،فكلٌ يحاول ترسيخ رأيه من غير اكتراث أو فهم لآراء الآخرين ،حتى وإن كانت مثقلة بالأدلة والبراهين التي تُثبت صحتها ،الأمر الذي أدى في النهاية إلى أزمة نقدية كادت تعصف بالنقد العربي المعاصر قبل أن تكتحل عيون محبيه برؤيته قادرا على الوقوف في وجه خصومه.‏

في إطار حديثه عن مسارات وآفاق النقد العربي يرى الناقد المغربي سعيد يقطين أن الصيحات التي تدّعي إفلاس التعامل مع الغرب وتنادي بنظرية نقدية عربية ليست سوى دعاوٍ لا أساس لها لأنها من وراء انطلاقها من خصوصية النص العربي توهم بأن النظرية يمكن أن تكون عربية ولا يمكننا أن نطالبهم بهذه النظرية المزعومة لأن الوهم المنطلق منه لا يمكن إلا أن يجعل منهم تلاميذ بلا موهبة للنقد العربي القديم الذي كان أكثر أصالة وأعمق في تفاعله مع التصورات الأدبية الهندية والفارسية واليونانية . من جهة أخرى يرى يقطين أن كل ما يقال عن النقد العربي المتصل بالنظريات الغربية ، ينسحب بشكل أكبر على النقد الذي يدعي الأصالة ، ويناهض التغريب ، لأن مزاعمه الحنينية إلى التراث النقدي والبلاغي العربيين تجعل منه عاجزاً عن الإبداع من خلالها أو تطويرها : من السهولة بمكان الحديث عن الجرجاني والقرطاجني والسجلماسي ، لكن من من هؤلاء المروجين للنظرية النقدية العربية نجح فعلاً في تأصيل نظرية جرجانية جديدة ، أو سجلماسية جديدة ...؟‏

يغدو الكلام على الكلام سهلاً عندما يكون التفاعل السائد سلبياً ، ولا يهم هل هو مع النظريات الغربية أو التصورات العربية مادام الجوهر واحد : التفاعل الناقص . وهذا التفاعل الناقص أو السلبي هو السمة المشتركة التي تلتقي فيها التجربة النقدية العربية خلال مدة تربو على قرن من الزمان وعكس هذا المسار نجد المسار المتحول مختلفاً وبالتالي فنحن أمام مسارين مختلفين اختلافا ًجوهرياً فإذا كانت المعرفة النظرية الغربية تتحول بناء على آليات ذاتية تحكم صيرورتها ، وعلى حوار متواصل بين مختلف المعارف والاختصاصات ، نجد المعرفة النظرية العربية ليست سوى صدى لنظرية تنتج خارج مجالها الحضاري والفكري . فالعلوم عندنا لم تتشكل على النحو المناسب ، والمشتغلون بالأدب لا يعرفون ما يتحقق في العلوم الأخرى ، وقس على ذلك . وعندما نقول صدى نكون ننطلق من إيمان مطلق بالتفاعل الثقافي وضرورته بالنسبة إلى ثقافتنا ونقدنا الأدبي . لكننا نسم هذا التفاعل , بعجزه عن امتلاك وعي معرفي وعلمي (ابستيمولوجي) يؤهله ليتحول من كونه صدىً أو تلقياً سلبياً إلى اعتباره فعلا أو إنتاجا له قدرة على تحقيق تفاعل إيجابي وبناء ومنتج. من جهته يرى الناقد فيصل دراج أن النقد الأدبي العربي الحديث ، أو ما يدعى بذلك ، زامل في ولادته ، تقريباً أجناساً أدبية وليدة وافدة ، ما لبثت أن تجذرت في زمنها الثقافي الخاص بها ، محققة تمايزاً واضحاً معلناً ، في بعض الأحيان ، عن إبداع حقيقي . والعودة إلى هذه الأجناس ، وتنطوي على المسرحية والرواية والقصة ، تضعها في مجال زمني ، تخومه الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين هذا إذا أخذنا في الحسبان البلد العربي الأكثر تقدماً في الإبداع الثقافي ، أي مصر ، على مبعدة عن أقطار عربية أخرى لا تزال تتعرف ، وببطء كبير ، على الحداثة الأدبية ، في ألوانها المختلفة . ويتساءل دراج:هل توجد ممارسة معرفية عرفية محددة يمكنها أن تأخذ صفة النقد الأدبي؟ ويجيب الناقد دراج على سؤاله بـ لا ولكن،و»لكن» هذه تملي صياغة أخرى للسؤال والجواب معا تقول:يوجد نقاد أدبيون عرب ولا يوجد نقد أدبي عربي .وآية البرهنة عن الجزء الأول من التأكيد هو الأسماء التالية:عبد الفتاح كليطو وشغله الممتاز على المقاومة والنصوص التراثية ،وسعيد يقطين ،الذي ينصرف إلى عمله بإخلاص كبير،وعبد الله الغذامي وإسهاماته المختلفة،وأسماء كثيرة أخرى عملها جدير بالتأمل والاهتمام..إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو :كيف يوجد نقاد ولا يوجد نقد أدبي عربي؟يمكن القول :يتكون الحقل النقدي في فعل حواري متعدد الأبعاد،ينطوي على حوار الحاضر النقدي مع ماضيه،والناقد مع نصه،وحوار الجهود النقدية المختلفة فيما بينها،وذلك في زمن ثقافي تاريخي معين،يغاير غيره من الأزمنة الثقافية،لأنه متمايز عنها بالضرورة .يقوم الأساسي في هذا التعريف ،وهو ناقص بالضرورة ،في أمرين وحدة الزمن الثقافي التاريخي،الذي هو أحد وجوه زمن تاريخي أكثر تعقيدا،يعرف الواقع الاجتماعي –الثقافي العربي ويتعرف به،ويعرف أنه لا يكافئ أزمنة ثقافية أخرى ،رغم وحدة الثقافة الإنسانية. يفضي الأمر الأول بداهة إلى مفهوم لا ينفصل عنه هو السلسلة النقدية التي يحتضنها،موضوعيا،الزمن الثقافي التاريخي ،لأنها صادرة عن أسئلته وتترجم إجابات محتملة عن الأسئلة المطروحة .وبقدر ما اختزل ،غالبا،الحوار بين الحاضر النقدي وماضيه وبين النص والناقد إلى إشارات ناقصة ،غاب الحوار في اتجاه لن يسمح به في اتجاه آخر.وفي تأمل هذه النتيجة يفضي المرء إلى القول التالي:يغيب الحوار بين الأعمال النقدية الأدبية العربية بسبب طغيان المرجعية النقدية الأوربية،كما لو كان قد استقر في فكر الناقد،كما غيره،أن الأساس قادم من الترجمة،أو أنه موجود وجاهز وواضح في النص الأوربي.وإذا كان هناك احتفاء ببعض النصوص النقدية العربية،أحيانا،فذلك راجع إلى (القول المترجم) الثاوي فيها ،الذي يرد إلى أسماء أجنبية ممتازة. وقد يظهر البؤس في النقد الأدبي،أحيانا،وفي غيره ربما،كما يرى فيصل دراج، في الهوة الفاصلة بين اللغة النقدية المشرقية واللغة النقدية المغاربية،اللتين تحتفظان بالكلمات العربية،دون أن تتقاسما مصطلحا مشتركا،أو أن تردّا،أحيانا،إلى أسئلة ثقافية مشتركة.ويزيد الأمر تعقيدا صعوبة (تبادل الكتب)بين الحدود العربية،التي نفرض على من يهتم بـ(الدراسات النقدية في المغرب)،على سبيل المثال أن يلتقي بمن شاء عن طريق الصدف السعيدة لا القنوات المنظمة الواجب وجودها .‏

كل هذا يشير إلى وجود نقاد أدبيين عرب دون أن يشير إلى وجود نقد أدبي عربي.شيء قريب من العناصر التي لا تدرج في بنية ،أو لا تجد البنية التي تجمع وترتب عناصرها،أو لا تلتقي تلك الرائحة )!و(بالمؤسسة التي تؤمن لها التوالد والتجدد والانتظام.مؤسسة طليقة متحررة الجناحين تشبه المؤسسة الروائية العربية،التي ترى إلى روائي قائم في ذاته وقائم في غيره وإلى رواية تعيد كتابة القول بأشكال مختلفة.ألا تحيل (اللص والكلاب)!إلى مرايا متقابلة؟وهل من الصعب إقامة علاقة بين تجليات الغيطاني وملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ؟أليس في أعمال العراقي الراحل غائب طعمة فرمان ما يحيل إلى روايات عربية أخرى؟إن هذا النسق الروائي ،بما فيه من استمرارية وتجدّد وتأثر وتقابل ،لاوجود له في حقل النقد الأدبي ،الذي لم يصبح نسقا.ويبدو أن السلطة السياسية لم يكفها التدخل بالشأن الثقافي عموماً،بل أرادت الوصول إلى كل صنف أدبي بمفرده،ولهذا بقيت السلطة السياسية المباشرة،كما السلطة الأيديولوجية الاجتماعية،عنصرا أساسيا في تقويم النقد الأدبي العربي وآفاقه،ذلك أنها تراقب وتقنن وتمنع وتنهى وترغب وتُرهب...ولذلك ليس غريبا أن تكون الرواية العربية،أو الشعر،أكثر حرية وازدهارا من النقد،ذلك أن الحقلين الأوليين يتحققان غالبا خارج المؤسسة السلطوية.وأن يكون النقد الأدبي أكثر تقدما وازدهارا من الفلسفة والعلوم الاجتماعية، اللذين يحتاجان إلى المؤسسة الرسمية.مع ذلك،فإن غياب الفلسفة ،في ألوانها المختلفة،كما هشاشة العلوم الاجتماعية،سبب أساسي في هشاشة النقد الأدبي في العالم العربي.وبهذا المعنى،وبمفارقة ليست بالمفارقة،يشارك النقد الأدبي العربي الحديث النقد القديم مصائره،فكلاهما تشكل خارج الاجتهاد الفلسفي أو على مبعدة عنه،مما أكد الشكلانية النقدية قاعدة في الحاضر والماضي.يمكن القول،ومع بعض العسف والاختزال:إن مستقبل النقد الأدبي العربي هو مستقبل العالم العربي ،الذي كلما لهث وراء(التاريخ الكوني)ازدادت الفجوة بينهما.دون أن ينفي ذلك ،بداهة، (الهامش ) النقدي الذي يواجه أبدا(مركزا)،لا يلتفت إلى النقد ولا إلى العقل النقدي،داخل الأدب وخارجه.‏

أخيرا ليس باستطاعة أحد أن ينكر على الخطاب النقدي الحديث عند العرب ما يعيشه اليوم من حالات التبعية،فضلا عن أنها غير منظمة ولا متعاونة،فهو لا يزال ينهل من النقد الغربي ويحتذي به حذو القذة بالقذة ،كما يرى صاحب كتاب المسبار في النقد الأدبي،ولا يزال النقاد العرب يتدربون نقديا لا يجاد ما يسمى بنظرية نقدية قائمة على أسس تختص بهم،وإن لم تتحقق الآن؛إذ لازالت غائبة....لأنها مازالت تغلّب التنظير على التطبيق و الإفادة من كل تقنيات الغرب الإجرائية والنقدية.‏

وهذا أمر لا يعيبه أحد،ولا ينتقص من مقومات الشخصية القومية والثقافية...و...فأجدادنا قد عززوا مبدأ المثاقفة مع الآخر ؛فنهلوا مما لديه وطوعوه لحساب ثقافتهم...فتحولت الحضارة العربية بفعل المبدعين منهم من مرتبة التقليد إلى مرتبة الإبداع،وصارت مادة استلهام للآخرين من بعد.فالعاقل من ينتفع بما لدى الثقافات الأخرى دون أن تأخذه مظاهر الدهشة ومن ثم الاستلاب.وهنا تحضرني عبارة،لصاحب المرايا المقعرة والمحدبة، لم أقرأ أجمل منها عند النقاد العرب وهي»لم تكن الثقافة العربية مفلسة،ولم يكن العقل العربي،قط،متخلفا،كل ما حدث أننا في انبهارنا بإنجازات العقل الغربي وضعنا إنجازات البلاغة العربية أمام مرايا مقعرة صغرت من حجمها وقللت من شأنها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية