تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


زكريا تامر.. يهجو قاتله

ملحق ثقافي
2/6/2009م
سامر أنور الشمالي

(1)الأديب الكبير (زكريا تامر) أكثر الأدباء العرب إخلاصا للقصة القصيرة، فكتبه التي بلغت التسعة حتى تاريخه حملت التجنيس التالي (قصص قصيرة) ولكن في كتابه العاشر استبدل (مفردة) قصص بمفردة (مقالات) مع بقاء المفردة الثانية (قصيرة) على حالها،‏‏‏

لينضوي هذا الكتاب تحت تجنيس (مقالات قصيرة) وهذا التبديل ليس مجرد الانتقال من جنس إلى آخر، أو استبدال مصطلح بسواه، بل يعني صراحة أن (زكريا تامر) إذا اختار الكتابة في جنس أدبي آخر -غير جنس القصة- فلن يتخلى عن أحد ميزات هذا الجنس الأساسية، وهو القصر الذي يعني حكما: الإيجاز، والاختصار، والابتعاد عن الثرثرة، والتكرار. وبذلك بقي (زكريا تامر) محافظا على مقومة من أهم مقومات سرده القصصي حتى في حال انتقاله إلى جنس غيره.‏‏‏‏

فبعد قراءة الكتاب لن نفاجأ أن (زكريا تامر) لم يتخل أيضا عن أسلوبه القصصي وهو يكتب المقالة، لأننا نعرف جيدا أن (زكريا تامر) كاتب قصة أولا وأخيرا. بل نشعر بالمزيد من المتعة لأننا نقرأ مقالات مكتوبة بقلم قاص مبدع.‏‏‏‏

‏‏

فالمقالات مكتوبة بأسلوب ألفناه في قصص (زكريا تامر) حيث الابتعاد عن المباشرة والتقريرية، والاقتراب من الرمز والإيحاء، مع تضمين واستبطان لقضايا إنسانية كبيرة وملحة، إضافة إلى حرفية وإتقان تدعمهما موهبة صادقة. لهذا يمكن التأكيد أن هذه المقالات ليست مجرد مقالات عابرة، بل هي نصوص أدبية متكاملة شكلا ومضمونا، وصالحة لأن تقرأ مرات ومرات، كأي نص أدبي استوفى شروطه الفنية كلها، وبذلك يمكن إدخال مصطلح (المقالة التامرية) إلى قاموس الأدب العربي الحديث الذي عرف سابقا مصطلح (القصة التامرية).‏‏‏‏

***‏‏‏‏

في ختام مناقشة الأجناس من الزاوية (التامرية) لا بد من القول أن بعض تلك المقالات هي قصص قصيرة مستوفية لشروط القصة التامرية تحديدا. وهذا ما جعلني أتساءل بحيرة عن السر الذي لم يمكن (زكريا تامر) من نزع تلك القصص ليلحقها بكتبه القصصية، وليكون كتابه القصصي العاشر مستقلا بغلافه عن توأمه المقالات القصيرة.‏‏‏‏

ربما السبب أن (زكريا تامر) غير معني بإشكاليات المصطلحات التجنيسية، لهذا ترك الأمر للناشر، وعكف على تجويد نصوصه التي ناست بين قصص قصيرة، ومقالات قصيرة، وأيضا مقالات قصصية، أو قصص مقالاتية!‏‏‏‏

(2)‏‏‏‏

الشعرية -بحسب تعبير البنيويين- تستوقفنا من عنوان الكتاب (هجاء القتيل لقاتله) فهو عنوان يصلح بامتياز لأن يكون مجموعة شعرية - وقصصية أيضا- لاسيما أن العنوان يتضمن مفردة الهجاء الشهيرة في تاريخ الشعر العربي، وهذا موضوع مختلف، فما يعنينا هنا بالنتيجة أن القتيل اختار أن يهجو قاتله، لا أن يشتمه، أي أراد أن يكون اتهامه دائما، ومستمرا، وليس مجرد شكوى عابرة، لأن الهجاء يستحق أن يبقى للتاريخ، ليتناقله كل المقتولين من فجر التاريخ، وبالطريقة ذاتها التي أوصلت لنا قصائد الهجاء السالفة.‏‏‏‏

‏‏‏‏

ولكن في العنوان ثمة تساؤلاً آخر: القتيل ميت فكيف يهجي قاتله؟! لا شك إذا انه قتيل بمعنى ما، وليس مجرد جثة باردة، مدفونة في قبر مجهول! أي يمكن القول أن القتيل ينزف لونا أحمر كتب فيه العنوان الذي خلف وراءه مساحة سوداء تكفي لثياب الحداد في عزاء هذا القتيل الذي سيكون مصرعه احتجاجا لبس لبوس المقالات القصيرة، وان كان هجاء طويلا للقاتل الحاضر الغائب (قاتل+ ضمير الغائب) بدأ في زمن موغل، ولم ينته حتى الآن!‏‏‏‏

***‏‏‏‏

هذا الكتاب الكبير بمعانيه، وأيضا صفحاته التي بلغت 465 صفحة، كتب فيه المبدع الكبير (زكريا تامر) عن كل شيء يستحق أن نهجوه جميعا، نحن المقتولين الذين يجب أن نهجو قاتلينا إذا لم يكن بمقدورنا صنع شيء آخر.‏‏‏‏

أجل.. (زكريا تامر) في كتابه هذا يهجو الكتاب والصحفيين الذين يحولون الكلمات إلى سلع تناسب كافة المناسبات، والمهرجانات، والندوات، ويفصلونها حسب حجوم الزبن، لتتحول الكلمات بين أيديهم إلى مادة إعلانية تحول القراء إلى مستهلكين ومصفقين لا غير. ويهجو رجال الدين الذين باعوا دينهم بدنياهم، بعدما امتهنوا الدين كحرفة للتكسب، لهذا التحقوا بركب الأثرياء، ليزينوا لهم موبقاتهم، ويبرروا سرقاتهم، وليأمروا الفقراء بالطاعة، ويهددوهم إن تمردوا بالعذاب في الدنيا والآخرة. وعن الجهال الذين يدعون المعرفة، والخونة الذين يزعمون الوطنية، والمفسدين الذين يرفعون شعارات مكافحة الرشوة، والابتزاز.‏‏‏‏

أيضا (زكريا تامر) لا ينحاز انحيازا أعمى، ومجانيا، غير مسؤول، للفقراء، والمظلومين، والمهمشين. فهو يدين الفقراء الذين رضخوا للذل، والمظلومين الذين صنعوا أصفادهم بأيديهم، والمهمشين الذين رضوا بالبقاء على الحياد وخشوا كسر الحواجز الحمراء.‏‏‏‏

كل هذا كتبه (زكريا تامر) بأسلوب ساخر تهكمي، يحفر بنصل السكين على الوجوه ابتسامة قاسية، لا تعبر عن السرور، بل عن التعاسة التي بلغت حد المفارقة الصارخة، حتى لتبدو الكارثة مجرد طرفة عبثية تحرض بضراوة على الضحك من شدة حزن لا يبدو له نهاية في القريب العاجل.‏‏‏‏

لقد عبر (زكريا تامر) عن كل هذه الهواجس، والهموم، بأسلوب أدبي أنسن فيه الوحوش، والطيور، والأشياء، فصار كل ما على الأرض يتحدث بلسان الإنسان الذي قد يكتفي بالصمت ولا يجرؤ على هجاء قاتليه.‏‏‏‏

***‏‏‏‏

(هجاء القتيل لقاتله) كتاب (زكريا تامر) الوحيد غير القصصي إضافة مهمة إلى جنس المقال الأدبي، وأيضا الصحفي، مما يجعله كتابا جديرا بأن يقرأه الجميع، لاسيما المقتولين بصمت.. لعلهم يتجاوزن سكوتهم ويجرؤون على ممارسة الهجاء علنا!‏‏‏‏

العنوان: هجاء القتيل لقاتله‏‏‏‏

المؤلف: زكريا تامر‏‏‏‏

الناشر: رياض الريس للكتب والنشر‏‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية