على مدى قرون، رفد الشعر الشعبي الفنون والآداب السردية العربية وأعطاها قدرة أكبر على الاستمرار والانتشار، وقدم للمسرح والرواية مصدرا غنيا للأشكال والحكايا. ومع ذلك مازال هذا المخزون الحضاري الغني ينتظر اهتماما أكبر من الدوائر الأكاديمية والبحثية العربية على غرار ما تلقاه الأنواع والتيارات الأدبية الأخرى.
في هذا السياق يأتي كتاب «الأدب والسياسة في المجتمع البدوي المعاصر» لكلايف هولز وسلمان أبو أثيرة، الصادر حديثا عن دار إيثاكا في بريطانيا، باعتباره خطوة رائدة في طريق تأسيس مقاربة أكاديمية للشعر الشعبي البدوي والذي يسمى أيضا أحيانا بالشعر النبطي، ومن ثم في رسم موقع لائق به على الخارطة الثقافية العربية وكذلك في وضع حجر الأساس لبناء استراتيجية نقدية يمكن عبرها مقاربة هذا الفن الصعب ودراسته.
يضم الكتاب أكثر من أربعين قصيدة لستة من الشعراء البدويين المعاصرين الذين يعيشون في سيناء وجنوب الأردن. شكل الباحثان هولز وأبو أثيرة بمفردهما فريقا ممتازا بامتلاكهما كل الأدوات اللازمة لهذا المشروع فأولهما بروفسور جامعي في جامعة أكسفورد مختص بالدراسات اللغوية والثقافية العربية المعاصرة وخبير باللهجات العربية وسياقها الاجتماعي والثقافي والثاني شاعر بدوي من أبناء البيئة التي ينصب عليها البحث وذلك إلى جانب كونه أكاديميا يحمل شهادة دكتوراه في الشعر البدوي النبطي وخبير محلي بالشعر البدوي وشعرائه. ارتحل الباحثان بين مواقع سكنى الشعراء وأقاما بينهم واستمعا إليهم وهم يلقون قصائدهم ثم ناقشاهم لفهم ما استعصى عليهما. سجل أبو أثيرة القصائد وقام هولز بترجمتها وكتابة المادة البحثية المرافقة لها بالإضافة إلى المقدمة والحواشي والهوامش والملاحظات النقدية واللغوية.
تمت ترجمة القصائد بحساسية لغوية شعرية عالية تحافظ على رهافتها وفنيتها وذلك في شعر بالانكليزية مقفى ومن شطرين. يضم الكتاب القصائد البدوية جنبا إلى جنب مع النصوص منقولة إلى الانكليزية مما يجعل من الكتاب عملا تجسيريا بين لغتين وثقافتين وكذلك سجلا معجميا للكلمات والمصطلحات والعبارات المجازية في اللهجات البدوية التي يستعصي فك مغاليقها على معظم الناطقين بالعربية في اللهجات الأخرى. بالإضافة لهذا يقوم الكتاب برصد تطور هذا الشعر خلال النصف قرن الأخير ويسلط الضوء عليه باعتباره وسيلة تعبير عن الرأي لمجموعات تعيش على هامش المجتمع العربي. باتباعه هذه الطريقة في التدوين والترجمة وببنائه لهذه المنهجية النقدية يؤسس الكتاب لإنشاء سجل ثقافي وأدبي للشعر البدوي.
تغطي القصائد التي تم تأليفها شفويا مجموعة واسعة من الموضوعات السياسية والاجتماعية، المحلية منها والدولية، تتوزع مابين الاحتجاج على الفقر والمظالم الاجتماعية والفساد في الأجهزة الإدارية الوطنية والاعتداء المنظم على الفضاء التاريخي للبدو من جهة أولى وبين رصد الأحداث التاريخية التي عايشها الشعراء بما فيها الحرب العربية-الإسرائيلية وحروب الخليج وغزو العراق من جهة أخرى.
ترافق القصائد مجموعة واسعة من المواد والمقدمات التي تقدم شروحات وافية لمساعدة القارئ على موضعة القصائد في سياقاتها الزمنية والثقافية وكذلك لاحتواء الفروق الطفيفة بين النص في أصله وصورته المترجمة كما تسلط المادة البحثية الضوء على تقاليد الشعر البدوي وتقنياته الشكلية وإيقاعاته وصناعته اللغوية وعناصره البنائية والتخييلية. بالإضافة إلى هذا يقدم الكتاب تفصيلا عميقا لعملية نقل النص إلى اللغة الإنكليزية ومستويات اللغة التي تم تبنيها وكيفية التغلب على الصعوبات والتحديات التي رافقت ترجمة القصائد، كل ذلك في لغة نقدية تتجنب المصطلحات المعقدة للخطاب النقدي المعاصر.
تلامس بعض القصائد قضايا شائكة استطاعت التقاطها عن كثب عين الشاعر البدوي، وتطغى الروح النقدية الساخرة على الجو العام للمجموعة كلها. هناك قصائد تحكي قصص مأساة فلسطين وأخرى تتغنى بحرب تشرين وتحث العرب على الكفاح لاسترجاع أراضيهم. إلى جانب هذه، هناك قصائد لاذعة شديدة اللهجة تتوجه للقوى الخارجية التي تنتهك حدود المنطقة العربية وتتوغل داخلها، كما أن هناك قصائد تنتقد الأمية الثقافية في الدوائر الغربية لصنع القرار والتي أدت إلى جملة من الأخطاء التاريخية التي جرت المآسي والويلات على المنطقة العربية وأهلها، على مختلف شرائحهم وفضاءاتهم والحروب المستمرة التي يتم تأجيجها.
ومن المفيد القول إن انتقاد القصور الثقافي لدى صناع القرار الغربيين واعتباره أحد الأسباب التي أدت إلى الأخطاء الكبيرة للسياسة الغربية كان موضوع إحدى المقالات التي نشرها البروفسور هولز قبل سنوات في الصحافة البريطانية ولاقت صدى واسعا في حينها. في تلك المقالة حمل هولز على الأساليب والألاعيب البلاغية التي يتبعها الساسة الغربيون في خطابهم عن العالم العربي-الإسلامي منذ أحداث أيلول2001. وانتقدت مقالته الأسماء الدعائية الاستفزازية التي يتم إطلاقها على الحملات والغزوات الغربية من مثل “العدالة المطلقة” التي تم استخدامها من قبل القوات الأمريكية أثناء حربها على أفغانستان. “إنها عبارة تنطوي على التجديف وتسبب الصدمة لأي مسلم عادي فما بالك بمسلم متشدد”، كان هذا ما أعلنه يومها الأستاذ الجامعي ناصحا من مكتبه في أكسفورد مستشاري القادة الغربيين أن يخضعوا لدورات في تعلم لغات العالم الإسلامي.
ولعل من أهم منجزات العمل أنه يسبغ طابعا من الكبرياء على هذا الفن الأدبي الذي طاله الإهمال كثيرا وتم استبعاده من الحياة الثقافية نتيجة التوجس التقليدي الشائع من دخول العامية إلى المؤسسة الأدبية، ومن احتمالات تنافسها للعربية الفصحى.
الكتاب دعوة خلاقة لتصالح العربي الذي يدرك أنه باني المدن والمدنيات الأولى في التاريخ البشري مع الصحراء التي خرج منها شعراؤه وأنبياؤه. ولعل الأكثر جرأة من بين الملاحظات التي وردت في سياق الجزء النقدي هي أن الشعر البدوي أشد عراقة مما يتصوره الكثيرون، فهو يضرب بجذور تمتد حتى القرن الخامس الميلادي وذلك لأن الشعر البدوي حسب ما يراه الكتاب هو وريث الشعر الجاهلي بلا منازع. هذا مايمكن لمسه بشكل خاص في مطالع القصائد التي تذكر بأجواء القصائد العظيمة الأولى. تبدأ إحداها مرجعة صدى أسلافها بالقول “يا عاذلي سار القلم يكتب سطور”.
الطاقة الشعرية الدفاقة التي تشي بها القصائد في أصلها ونقلها تزيد من متعة القراءة، والحماس الذي يبديه الباحثان في محاولة التقاطها وترجمتها يعيدان الاعتبار إلى هذا الفن الأصيل ويمنحانه بعدا كونيا. ومثل معين ثر يمشي وحيدا بين الكثبان بانتظار الواردين، يحفر الشعر البدوي مساره مبرهنا على أنه المعادل الشعري الأكثر قوة وجلاء للصحراء العربية التي تلقي بظلها العملاق على المخيال الثقافي العربي أجمع وعلى أنه الإضاءة الحية المتبقية للبيئة الشعرية الغنية التي ينظر إليها كثير من العرب باعتبارها مهد أفكارهم ورؤاهم ونماذجهم الثقافية.