تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


لمـــــاذا ؟!

ملحق ثقافي
2/6/2009
قصة : سمر حمود الشيشكلي

بدأت ساعة الحائط الصغيرة تدق برقة معلنة عن الوقت إنها الخامسة مساءً .. ما زال عبد الكريم يغوص في الأريكة الوثيرة مسترخياً في غرفة المعيشة بملابس البيت ..

خيمت عتمة المساء على جو الغرفة .. ولكنه لم يتحرك ليضيء مصباحها .. كان فاتر الهمة على غير عادته في مثل هذا الوقت .. يتملكه نعاس يصيبه بخدر لذيذ ..‏

ينزلق بجسمه قليلاً للأمام وذراعاه مفتوحتان تتعلقان بمساند الأريكة ..‏

لم يكن يحب النوم لساعات طويلة لا في الليل ولا في النهار ..‏

- إذا نمت أكثر مما يحتاجه جسمي ستبدأ خلايا دماغي بالتلف ..‏

- يا رجل !!!‏

- تستغربين ؟! ها أنت أكبر دليل على هذه النظرية .. أظنك خسرت إلى الآن نصف خلايا دماغك ..‏

كانت ردة فعلها الهادئة تؤجج غضبه في كل مرة ترمقه فيها بألم مشوب بالعتب والأسف ولكنه لا يستقبله إلا على أنه برود غبي ..‏

كان يرمق جسدها المائل للبدانة والتكتل ووجهها المنتفخ قليلاً بشكل يزيد من تقلص اتساع العينين الصغيرتين السوداوين ..‏

- سيأتي وقت لا أرى فيه عيون على الإطلاق..‏

- هل كنت تراها قبل الآن ؟! كان ردّها يحمل كل الحقيقة التي تؤلمها وتؤجج غيظه في آن معاً ..‏

- يا سلام !! لو خلقنا من دون الحاجة لا للنوم ولا للطعام .. كنا عشنا عمراً فوق عمرنا .. النوم حرامي يسرق نصف العمر .. أعرف .. أعرف .. للأسف هو وفقاً لتركيبتنا الحالية ضرورة للاستمرار اليقظ‏

كثيراً ما كان يردد بغضب :‏

- أنت أكبر عقوبة تلقيتها في حياتي !! يا رب .. لماذا ؟!‏

كانت تهمس لقلبها بألم :‏

- لماذا ؟! ليتك تدرك فعلاً جواب هذا السؤال ..‏

•••‏

- أرجوك حبيبي .. سنتأخر .. لا يصح هذا .. الجميع صاروا هناك .. إنهم ينتظروننا ..‏

- أففف ... ألا أعفى من هذا الهم ؟! .. لماذا لم تطلبي من أهلك أن يمروا لاصطحابك؟!‏

- أنت تعرف أن وجودك معي أساس في مثل هذه الدعوات إنها دعوة عائلية .. وأنت لا تحب أن يفسر غيابك ..‏

قاطعها بسرعة برد حمله أكبر قدر من الصدّ العنيف :‏

- طيب .. طيب .. انتهينا .‏

نهض وسار من أمامها بفتور .. التقت عيناه بعينيها .. ابتعد بنظره بسرعة عنهما .. هناك خلف هاتين العينين الصغيرتين الغارقتين في خدود منتفخة كان يلمح كائناً قادراً على كشفه حتى الصميم فخشيه وكرهه ..‏

•••‏

عادا من الحفل باكراً .. آثرت الاستجابة لطلبه لتعفي نفسها من تقريع لا ينتهي بعد ذلك ..‏

ابتدرها وهما في غرفة النوم .. كان يستلقي على السرير فوق الغطاء بلباس نومه وقد رمى بملابسه التي حضر بها الحفل فوق الأريكة في الزاوية, ويعقد ذراعيه تحت رأسه ينظر إلى السقف , وهي تعلق ملابسه وملابسها في الخزانة توليه ظهرها بالكامل . كان قد وفّر كل الكلام في الحفل وفي الطريق ليطلق لنفسه العنان في البيت .. بل كان يظهر وجهاً مغايراً لم تكن لتراه وهما منفردين ..‏

ولقد تطوع أحد إخوتها بتوصيلهما بسيارته ..‏

- حفلة بكل معنى الكلمة !! ما شاء الله !! من أجل ماذا؟!‏

من أجل نجاح في الإعدادية !! وأي نجاح ؟! ليته كان نجاحاً مشرفاً !! وزينة وموسيقى و “ بوفيه “ طعام من كل نوع ولون .. وخدم .. وبروتوكولات .. وهدايا !! هدايا !! ترى هل يرد أهلك كل هذه الهدايا بمثلها ؟!‏

كان يضرب على وتر عامداً .‏

- أنت تعلم تماماً أن كل هذه الهدايا ترد على شكل خدمات إن عاجلاً أم آجلاً ..‏

ردت عليه بهدوء وهي لا تزال توليه ظهرها.‏

- خدمات !! أجل خدمات !! الله يرحم أيام زمان ..‏

لكن على فكرة مهما حاول أهلك تقليد المجتمع المخملي سيبقى طابعهم يغلب على كل شيء ويمسخه .. الله يرحم أيام زمان .. سيارة أخوك جديدة أليس كذلك ؟‏

ترى ما الخدمة التي كانت ثمناً لها..؟!‏

على كل حال ... أعتقد جازماً أن كل من حضر من وجوه المجتمع الراقي كان حضوره تملقاً .. أيعقل أن يحضر أحدهم مثلاً ساعة بآلاف الليرات لولد نجح في الإعدادية بقوة الدفع على سواد عيونه أو عيون أهله .. و ..‏

وانطلق كعادته يسخر من أهلها .. كان يدعوهم بحديثي النعمة الفاشلين .. وكان هذا أبسط وصف وأقله تجريحاً مما كان يتدفق على لسانه في مثل هذه الساعة .. كان يستمتع للغاية وهو ينالهم بلسانه اللاذع .. كان يرضي غيظاً لا يهدأ في داخله .. وتستمر هي بما تقوم به ..‏

لا تريه وجهها الذي قد يتبلل بدموع صامتة تمسحها بسرعة قبل أن تلتفت إليه ويراها ..‏

لم يكن يتورع عن جلدها بصب جام غيظه وغضبه عليها من آن لأخر حتى بدون سبب..‏

احمدي الله أني قبلت بك .. وإلا لكنت الآن في بيت أهلك .. عانس بائسة تنتظرين ما لا سيأتي أبداً .. لا شهادة .. لا ثقافة .. ولا ..‏

وينطلق بلا أنة ضمير واحدة .. لا يردعه شيء ..‏

كانت قد توقفت عن الرد عليه منذ زمن بعيد‏

داخل جدران بيته ومعها وحدهما كان لا يخيفه شيء إلا .. كان هدوءها وتوازنها الظاهري والقابع خلف هاتين العينين الصغيرتين الغارقتين في الخدود المنتفخة الوردية يثير فيه الخوف والبغض .. ولكنه فعلاً لم يكن يعي من يبغض وماذا يبغض بالتحديد ..‏

- طبعاً نمت .. أحسدك على هذا البرود .. أحسدك على إحساسك المتبلد .. عقلك دائماً في إجازة ..‏

طبعاً !! عرف أهلك .. إخوتك الشباب بالذات كيف يصطادوني ويرموك علي .. و يستغلون وضعي.‏

كانت مستلقية تحت الغطاء ووجهها للطرف الآخر .. إلا أنها لم تعد تحتمل هذه المرة ..‏

بلغ حد ابتلاعها للمرارة فوق حدود إمكانيات قدرتها على الصمت .. فاستدارت نحوه والألم ينساب دموعاً حارة تبلل وجهها .. وسألته بهدوء شديد‏

- اسمح لي أيها الذكي الوسيم يا ابن الأصول .. أيها الشجاع الجريء .. أيها المضحي أن تجيبني على سؤال واحد محدد..‏

كنت تعرف كل شيء .. لا تستطيع الادعاء أنني عرضت عليك .. أنت سعيت للصفقة .. كنت أعي أنها صفقة وأنك تاجر .. ولكني رضيت واقتنعت .. بل وحاولت أن أحبك .. لن أسألك لم تزوجتني ..‏

فقط أسألك لماذا ما زلت هنا .. في بيتي؟!‏

عينها الآن في عينه .. تواجهه بقوة وإصرار كان ينظر في عينيها ذاهلاً تماماً ..‏

أطرق بعد عدة ثوانٍ واستدار بعيدا عنها ...وقد فقد الإحساس بمتعة الانتقام ..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية