وقد يكون جيمي كارتر أكثرهم تعاطياً في السياسة الدولية بدءاً من مراقبة انتخابات, وصولاً لتقديم المشورة والمساعدة النظيفة في حلحلة الأزمات, ومن حق هذه الأسماء أن يكون لها صفحتها المضيئة في التاريخ الأميركي الحديث, فقد يفتقر هذا التاريخ لأي صفحة مضيئة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وبداية الصعود الأميركي لقيادة السياسة الدولية حتى يومنا هذا.
وما أثير من ضجيج حول الدور الملتبس لكبير الحكماء جيمي كارتر في خرق كل المحاذير, واقتراف أكبر الفواحش السياسية حسب التصنيف الأميركي في العلاقات السياسية الدولية, وهو الجلوس إلى طاولة واحدة مع السيد خالد مشعل المصنف زعيماً لمنظمة إرهابية تتموضع اليوم في الخندق المقابل للحرب الأميركية على الإرهاب, هو ضجيج يعبر عن اهتزاز قوي للسياسة الأميركية بل فقدان للتوازن, وانكشاف لتباين كبير بين ممارسة السياسة الرسمية الأميركية والرؤية السياسية لبقية الشعب الأميركي بغض النظر عن مستوى المواطن الأميركي هذا أو مكانته الاجتماعية.
ليست الأزمة خياراً خاطئاً لرئيس أميركي سابق يبحث عن دور في السياسة الدولية نسي أن يفعله عندما كان في سدة الرئاسة, وليست شكلاً مستحدثاً في الساحة السياسية, لكنها يقظة ضمير فيما تبقى من العمر, وهنا أذكر أن الضمير جزء من التكوين الإنساني متوافر لدى الجميع, يمكن إعماله أو إبطاله حسب مقتضيات الوظيفة, وما أصبح من المسلمات, أن العمل في السياسة الخارجية الأميركية تحتم إبطاله!
يعني هذا أننا قد نجد في الصيف القادم أن الرئيس السابق جورج بوش (الحالي) وسيطاً يعمل بوداعة القديسين للتقريب بين حزب الله وإسرائيل من أجل سلام تنتظره شعوب المنطقة, واستكمال صفقة تبادل الأسرى, وهو من يعوقها اليوم لأن مقتضيات الرئاسة الأميركية تتطلب ذلك?
هل سنجده على جناحين أبيضين يرفرف فوق طهران يدعوها لبيع أسلحتها الخفيفة والثقيلة, أو تحويلها إلى لعب للأطفال لعدم حاجتها في المستقبل بعد أن نذر ما بقي من العمر لتنظيف ما أصاب الكرة الأرضية من تلوث بدم الأبرياء طيلة سنوات حكمه وحكم والده من قبله?
إن ما يرفضه المنطق المألوف في علاقة أميركا بالسياسة الدولية, ويبدو مخالفاً لمسار السياسة يصبح مقبولاً إذا ما فهمنا أن السياسة الخارجية الأميركية لا علاقة لها بمتطلبات المجتمع الأميركي, كما هو معمول به في كل دول العالم بما فيها الكيان الإسرائيلي, الوصي والموصى به أميركياً, لكنها محكومة باعتبارات أخرى يمكن فهمها كما يلي:
1- لم يبق من يعتقد في العالم أن القوة العسكرية والهيمنة يمكن أن تكون خياراً في العلاقات الدولية, أو منهجاً لقيادة العالم الذي عانى زمناً طويلاً من تبعات الحقبة الاستعمارية, واتجه لبناء علاقات دولية وفق جسور الاقتصاد والثقافة, وعبر المسالك التي تحترم إنسانية الآخرين سوى أميركا, وقد بلغ هذا الخيار عتبة الجنون الذي يدفع باتجاه حصار روسيا السوفييتية والتعامل معها كالتعامل مع هاييتي أو الدومنيكان.
2- الإدارات المتوالية في أميركا هي نتاج تنافس مجمعين انتخابيين هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي, وقد بنيت اتجاهاتهما أساساً على قاعدتين:
- أولاهما عنصرية تضع مصلحة أميركا أولوية على حساب الأمن والسلم الدوليين, وهو ما تأكد في قراري الحرب على أفغانستان والعراق, ويؤكد هذه العنصرية رسمياً الموقف المبدئي لكل الإدارات من إسرائيل التي حازت بجدارة شهادة رسمية من الأمم المتحدة كدولة عنصرية, ويتأكد التوجه العنصري هذا لدى ألوان المرشحين للرئاسة الأميركية في التنافس لتقديم الوعود لإسرائيل عند فوز أحدهم في الانتخابات.
- ثانيهما أن الانتخابات وما تنتجه هو حصيلة أحد نشاطات رأس المال الذي تتحكم به الصهيونية من أميركا, وهو يعمل في شركات عملاقة تتقدمها الشركات النفطية التي يدور معظم نشاطها في منطقة النفط العربي بشكل رئيسي, تليها شركات السلاح التي تنتعش في ظل النزاعات الدولية والحروب, ثم تأتي بعدها الشركات المرتبطة بهذين الاتجاهين.
إن تنافس المجمعين وفق هذين المبدأين سينتج إدارة محكومة بالعاملين المذكورين, فإن اختلفا في الانتماء الحزبي فهما متفقان في الهدف, وبالتالي سيكون الرئيس القادم دوماً على سدة الإدارة هو مشروع سياسي محدد, إذا غادر المسار المرسوم قليلاً سيلقى مصير الرئيس جون كيندي أو ما يقاربه, وما عليه لينهي فترة رئاسته بسلام إلا أن يودع ضميره وقيمه الإنسانية خارج أبواب البيت الأبيض, فقد يحتاجها بقوة بعد أن ينهي دوره الرئاسي كما فعل السيد كارتر ليعبر بها عن عمق إنسانيته, ويكفر عن بعض ذنوب توليه إدارة البيت الأبيض, أو أن يبقى الندم رفيق حياته الباقية كما هو الحال عند كولن باول بقوله (يؤسفني أني كنت شريكاً في التهيئة لغزو العراق, ونصف العذر أني كنت مضللاً).
El.gosn@yahoo.com