فهو أمرٌ متفرِّد في وصفهِ للمأساة التي كان الإيزيديون العراقيون، أحد ضحايا تفاصيلها الإجرامية.. أيضاً، في جعلنا نشعر ولدى كلّ فصل من فصول النزيف الذي قرأناه، باشمئزازٍ بالغ القرف من هذا التنظيم ودولته، وبوجعٍ هو وجع كل من انتُهكَ وطنه وجسده ومعتقداته وآدميّته.
إن، ماشاهدناه وقرأناه في «عذراء سنجار» الرواية التي لم يكن مبدعها الروائي العراقي «وارد بدر السالم» بحاجة للبحثِ عن وقائعٍ تسردها، بل إلى خيالٍ يخفِّف كثافةَ الويل في قصصها.. الخيالُ الذي أحالها إلى ملحمةٍ يكفي عنوان كلّ فصلٍ فيها، لمنحِ القارئ ذاكرة متخمة بغرائبية وواقعية معانيها..
انطلق «السالم» في روايته من «سنجار». المدينة التي سلَّط وصفه على القلَّة الذين وقعوا فيها أسرى «داعش» الهمجية.. القلّة من الإيزيديين الذين عانوا ماعانوه وكان سبباً في جعلهم شخصيات مؤثرة جداً وأسطورية.
شخصيات، كان أكثرها بروزاً «المرأة الحامل» التي يأتي أوان ولادتها فلا تلدْ، ولأنها لاتريد لطفلها أن يخرج إلى حياة يرى فيها الوحوش الذين ذبحوا والده، وعاثوا نجاسة وتمزيقاً في أرضه.. أيضاً، التي كان لديها مخزون خيالي عن قصصِ الإجرام الداعشي.. قصصٌ، روتها لكلِّ الإيزيديين الذين كان منزلها ملاذاً آمناً لهم.. تأويهم بعد معرفتهم، وبعد أن تُعرّفهم: «أنا امرأة الحمل المستحيلة. لن ألد إلا في موعدي. ستجد هذا خيالاً فذَّاً، لكنك تراه الآن مثلما في حكايات السلف العظيم، وخيال السلالة النقية التي صهرت القرون بحكمتها ونقائها.. أنا امرأة الخيال الذي يقبل الواقع لينتصر عليه ويخلقه من جديد بالرغم من قسوته...»..
أما أوَّل من روتْ له ذلك، فـ «سربست» البطل الذي عاد من ولاية الموصل إلى «سنجار» بمعجزةٍ غرائبية، وبوثيقة «غير كافر» التي تسمح له بالعبور والتجوال بين ولايات الخلافة الداعشية.
عاد مع صبيٍّ، وكانت وجهتهما منزل «الحامل».. امرأة الرموزِ التي قادته محاكاتها، لمحاكاة ذاته ودينه ومجتمعه وواقعه، وعبر تساؤلاتٍ دفعته للاستنتاج، بأن لادين إلا ما يلامس العقل والروح ويصون الأرض وإنسانها.. استنتج ذلك، بعد أن وجدَ نفسه محاصراً بما قالته هذه المرأة وبما لم تقله، وإلى أن بات يريد أن يعرف: «يريد أن يعرف كلّ شيءٍ، وفي الوقت ذاته لايريد أن يعرف كل هذا الانهيار الشامل وكلّ هذا الوجع، فكلّ شيءٍ ممكن الحدوث في جوٍّ غريب. الغرباء دائماً يحاصرون الحياة، ويغرقونها بالألم والمجهول. يسرقون الهواء أيضاً، ويستبدلونه بشهقاتٍ تحتضر على مدار اليوم».
أيضاً، بعد أن رأى هؤلاء الغرباء، يقترفون في أرضه ما كان أفظعه، ما لحقَ بعشرات الصبايا من سبيٍ وتعذيبٍ وسوى ذلك مما أفتتْ به دولة العار الإسلامية. دولة العارِ التي كفَّرتهنَّ وأقامتْ الحدِّ عليهنَّ، لرفضهنَّ الانضمام إلى صفوف مجاهدات الخلافة الإرهابية.
إن ماذكّره، بما عاد من أجله إلى «سنجار» التي أوجعه عارها، وهو مـا أسرَّ به إلى الحامل، ومذ وطأ والفتى دارها وأخبرها: «أنا ابن سنجار الأسيرة، معي فتى مسلم فقد الحياة مبكراً بضياع أهله وإعدامهم، وسيساعدني في البحث عن «نشتمان» الوطن».
نعم، «نشتمان» روح الرواية وعذراء مضمونها، وطهارة الرمز في حروفها.. ابنته والسبيّة التي كانت رمزاً يهتدي إليه أبناء «سنجار» مثلما طهراً لا تلوِّثه نجاسة تنظيم القتلةِ والفجَّار.
«نشتمان» الغائب الذي بحث عنه دون أن يتوقف عن الترديد وبلهفة: «طفلة القلب ذابت هنا أو لا أعرف أين.. ابتلعها داعشي سافل. قد يكون في بيتي ذاته الذي ربما صار وكراً لدعارة جنود الخلافة».
ردّد ذلك، بعد أن فتحت جرائم «داعش» في عقله: «جرائم داعش فتحت في عقلي نوافذ ورياحاً.. لقد تكسّر الزجاج في رأسي، وأصبح حراً.. لن يلزمني دينٌ مهما كان شكله واسمه.. المهم أن نجد «نشتمان» وتتحرر شنكال لعلّ الناس تستفيد من هذا الدرس».
حتماً، هي ليست ذنوبٌ وإنما توبة عن الإيمان بما لا يؤوّله العقل ولا يرتقي بالروح والإنسان.. توبةٌ، سببها الكثير من الحروب التي حدثت:
«حدثت بسبب الأديان، و»داعش» مثال قريب لنا مع يقيني المطلق أنهم، عصابات عالمية ولا يمثلون ديناً قديماً أو حديثاً.. إنهم مجموعات من المرضى الذين أخذوا من الدين تأويلاته وحوَّروا تفاسير كتابه، مدعومين بجهاتٍ خارجية متعددة النوايا».
هذا هو «سربست»: «ابن «شنكال» المهزومة الأسيرة. ابن الجوزة الصمَّاء والتينة المحروقة والمعبد الخائف.. ابن التاريخ والفارمانات المتعاقبة.. ابن الذبح والخطف والأسر والضياع على مرِّ التاريخ».
لاشكَّ أن هناك شخصيات أخرى مؤثرة وهامة في الرواية. لكن، وإن لم يكن هناك مجال لذكرها والبحث في قصصها ووجعها، إلا أنه من الممكن الحديث عن «نالين». الكاهنة التي أدمتها «داعش» بختانٍ، نزفَ إنسانيتها قبل عقيدتها.
«نالين» التي بقيت وعلى مدى استعادتها لذكريات ويلها، وقبل أن يُغيّبها مصيرها. بقيتْ «أخت الآخرة» التي كانت «تصنع من هائل الحزنِ ابتسامة، ومن الألم قصيدة» ولأنها اقتنعت بأن: «هذا الغزو الداعشي، قضى على كلِّ أملٍ بأن نمضي في خرافة الدين لتوفير بعض الاطمئنان الروحي. باقون على هامشِ الحياة. طائفة صغيرة تتناسل فيما بينها، ويتحكم بها الزمن والسلطات المتعاقبة. تكفير متلاحق وسبيٌ متلاحق»..
كل هذا، وحربة الشيشاني وخطوات الملتحي «تدق في قلبِ صبية سبيَّة، بعمرِ الورود».. «مخلوق من شرٍّ يحيط بها.. كلّ عصبٍ فيه جريمة، وكلّ شعرة في لحيته شر، وكل شيءٍ في جسده عبارة عن لغمٍ ينفجر في أي لحظة.. مهووسٌ بتعذيب الناس وقتلهم، وزخّات الدم تتقاطرُ أمامه كما في مشهدِ التصوير البطيء. القاتل، يعصرُ فروة الرأس المقصوص بقوة، ليسرِّع بين القطرات البطيئة، فتكسو المشهد لحظات انتصار غريبة، تعطيهِ زخماً من الإصرار على أن يكون ابن اللحظة الغامضة».
ننتقل إلى «ابن سنجار» أو كما سمّى نفسه على صفحته الإلكترونية. الفتى الذي كان يراقب ويوثّق سراً جرائم «داعش» ومجازرها التكفيرية.. ينشرها ليرى ماسيفعله العالم أمام كلّ هذا الدم والألم.
فعلَ ذلك، انتقاماً لأهله ولكلِّ الضحايا والسبايا في «سنجار».. الأهم، للغائبة التي ألحَّ وصديقه «سربست» في حضورها. «نشتمان» الروح الهائمة في غياهبِ الأقدار.
نهاية، ورغم إغفال الكثير من الشخصيات المحورية، تبقى «عذراء سنجار» الملحمة الرمز في محاكاتها حتى للحيوانات ممن وجد أبطالها في محاكاتهم لهم ومنهم «كلب، صقر، غراب، فراشة» مالم يجدوه من الأخلاق وقيم المحبة والصداقة والوفاء لدى أبناء الإنسانية.
تنتهي الملحمة، بتقديمِ لوحة هي ليست الأولى في فظاعتها، وليتها تكون آخر اللوحات. لوحة لـ « داعش» وهي ترمي شهيدا آخر من مكان مرتفع إلى حيث يغوص عميقاً في الأرض، تنبت مكان سقوطه شجرة تين محملة برموزٍ ودلالات جعلت الشهادة مقدسة، وضريح الشهيد مزاراً يصلّي فيه «سربست» مرتلاً آيات: «سأنتمي إليك ياشهيد، لأنك الحقيقة الجميلة التي ستبقى وتكبر وتجذب الفقراء إليك.. لأنك ابن الدين الشجاع ولم تنقسم شخصين، ولم تهتز في هذا الفيضان الداعشي الناري الذي سحق الأرض والعرض وعاث فساداً في الأرحام الطاهرة..
قتلني الحبّ ياشهيد، ففقدت الإيمان بكلِّ شيءٍ، لكني أعاند نفسي من أجل «نشتمان» عذراء سنجار وأميرتها الصغيرة.. عرفت الآن أن الإيمان هو الحب والحبّ هو الإيمان».
يبقى أن نقول: «وارد بدر السالم» روائي وقاص عراقي، وثَّق روايته هذه بعد زيارته لمخيمات الإيزيديين، والتقائه بالعديد من المختطفات اللواتي سمع قصص هروبهن من داعش، فحوَّلها إلى عمل ملحمي.
من رواياته: «شبيه الخنزير» و«عجائب بغداد» و«مولد غراب» و«طيور القاق»، ومن قصصه: «البار الأميركي» و«المعدان» و«جذوع في العراء» و«أصابع الصفصاف»«ذلك البكاء».. وغيرهم..