حيث استثمر بوش الأب حرب الخليج الثانية أو حرب ما يسمى «تحرير الكويت» ليحكم سيطرة أميركا على منابع النفط، وبعد ذلك كانت حرب تفكيك يوغسلافيا التي سخرت للقضاء على آخر قلاع الشيوعية في أوروبا وتم توظيفها جيدا لمصلحة الصعود الأميركي إلى قمة النظام العالمي، ولكن منذ أواسط عهد بوش الابن الذي تورط في حربين مدمرتين وفاشلتين حدثت تطورات كثيرة أفقدت الولايات المتحدة الكثير من نفوذها وسمعتها وأسست لقيام ونشوء قوى عالمية جديدة لم تسلم بحتمية بقاء القطب الأميركي وحيدا، فانبثقت مجموعة بريكس وسبقتها منظمة شنغهاي للتعاون لتؤسسا لعالم متعدد الأقطاب، في حين بدأت روسيا باستعادة بعض من الحلم السوفييتي وتقدمت الصين إلى موقع جديد أتاح لها أن تنافس اقتصاديا وترفض الاملاءات والشروط الأميركية وتبحث عن مكاسب جديدة تتناسب وحجمها وموقعها.
ومع بداية الأزمة السورية قبل عام ونصف العام حاولت الولايات المتحدة أن تستعيد مكانتها ودورها في المنطقة تعويضا لانسحابها المذل من العراق وخسارتها الحرب هناك وتخبطها المستمر في أفغانستان واحتمال تلقيها خسارة جديدة، ولكن الظروف والوقائع الميدانية خانتها هذه المرة لأن القوى العالمية الأخرى الموجودة على الساحة لم تسمح لها بذلك وتجلى ذلك عمليا في مجلس الأمن، وكذلك لأن قائمة العملاء والمرتزقة الذين اعتمدت عليهم في تأزيم وتفجير الوضع السوري لم يكونوا حصانا رابحا يمكن الرهان عليه بل شكلوا نواة الهزيمة الوشيكة، ولهذه الأسباب بدأت علائم الغضب والتخبط والخيبة ترتسم على وجوه المسؤولين الأميركيين وآخرهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي جربت المجرب وكررت المكرر قبل أيام في تركيا، ومما ألمحت إليه كلينتون هو إمكانية فرض مناطق حظر جوي في سورية كبداية لتدخل عسكري لدعم الجماعات المسلحة الإرهابية التي بدأت بالاستغاثة بعد الضربات القوية التي تلقتها على أيدي أبطال الجيش العربي السوري، في محاولة أميركية يائسة لحفظ ماء الوجه المسفوك ورفع معنويات أدواتها المحبطة في الداخل وكذلك أدواتها المسعورة في الخارج لاسيما في تركيا والسعودية وقطر.
فتوقيت التصريحات ومكانها يعطيان إشارة واضحة لمدى تورط الأميركيين في الأزمة السورية ومدى خشيتهم من خسارة جديدة تعطل مشروعهم لتغيير جغرافية الشرق الأوسط، ففي التوقيت تزامنت تصريحات كلينتون مع الضربات الموجعة التي تتلقاها الجماعات الإرهابية على يد جنودنا البواسل على كامل الأراضي السورية وخاصة في مدينة حلب التي حاولوا أن ينشبوا مخالبهم القذرة في أحيائها العصية على الإرهاب دون جدوى، وفي المكان فإن تركيا شكلت منذ بداية الأزمة رأس حربة المشروع التآمري الذي يستهدف سورية والمنطقة بدليل أن حكومة المدعو أردوغان وفرت لهؤلاء الإرهابيين كل أشكال الدعم المادي واللوجستي، واستضافت تنظيماتهم الإرهابية ورموزهم التابعة وأمنت لهم كل وسائل الراحة والتدريب والاجتماع والتآمر وجعلت من أراضيها منطلقا للهجمات الإرهابية التي تستهدف المواطنين السوريين وأفراد الجيش العربي السوري.
وقد بدا واضحا أن كلينتون قدمت إلى تركيا لتأكيد دعمها لوريث المشروع العثماني البائد أردوغان الذي اتضح مع مرور الوقت أنه لم يتعد أن يكون مجرد ظاهرة صوتية عديمة الجدوى، وكذلك جاءت لرفع معنويات الجماعات الإرهابية التي بدأت بالتقهقر والانكفاء تحت عناوين باتت مصدر سخرية وتهكم من قبل المواطنين السوريين، كالانسحاب التكتيكي والخوف على المدنيين وما إلى ذلك من ادعاءات ساذجة لا يصدقها الأطفال، وقبل كل ذلك بدت الولايات المتحدة في مأزق كبير لأنها أحرقت كل مراكبها في العلاقة مع الدولة السورية ووضعت كل بيضها الفاسد في سلة المعارضة السورية الانتهازية المنقسمة على نفسها وحول خياراتها.
غير أن المفارقة المضحكة هي أن كلينتون جاءت إلى تركيا لتدعم «المعارضة السورية المسلحة» التي أقر مسؤولون في الاستخبارات الأميركية أنها تتضمن جماعات أصولية متشددة ومتطرفة من بينها تنظيم القاعدة الذي تحاربه واشنطن، في حين أن دعمها كان لتركيا في مواجهة ما أسمتها التنظيمات المتشددة التي تستخدم العنف داخل تركيا، فمن جهة أميركا تدعم الإرهاب داخل سورية ومن جهة أخرى ترفضه داخل تركيا، فمن ذا الذي يبرر للولايات المتحدة هذه الازدواجية المريعة في التعامل مع قضية الإرهاب ما لم يكن مشبعا بالولاء للصهيونية والامبريالية الأميركية.
كلينتون ادعت أن أولويات حكومتها تبدأ بإنهاء نزيف الدم في سورية، والواقع يقول غير ذلك حيث كانت أولويات الإدارة الأميركية زيادة الفوضى وأعمال العنف في سورية منذ بداية الأزمة، ولولا الدعم الأميركي والتركي والسعودي والقطري والإشارات السلبية من بعض الدول الغربية للمعارضة المسلحة والجماعات الإرهابية المرتبطة بها لما سقط في سورية عشر عدد الضحايا والشهداء الذين سقطوا، فلو أن من يسمون أنفسهم «معارضة» قبلوا دعوة الحكومة للحوار ولم ينصتوا لنصائح كلينتون المريضة لكانت الأزمة السورية قد لفظت أنفاسها قبل أكثر من عام، ولكان معظم الضحايا والشهداء أحياء بيننا يشاركون في عملية الإصلاح والبناء والمصالحة. ولكن التدخل الأميركي العلني وتصرفات السفير فورد وسع الهوة بين الجانبين وساهم في رفض الحوار من قبل المعارضين ومهد الطريق لعسكرة وتسليح المعارضين للحل والحوار وهذا ما أدخل البلاد في أزمة يدفع ثمنها كل السوريين دون استثناء، ثم أليست الولايات المتحدة وبعض حلفائها وأذنابها في المنطقة هم من يعاقبون الشعب السوري لوقوفه خلف المشروع الإصلاحي، ونزوعه نحو السلام والأمن والاستقرار ورفضه الفوضى والتخريب اللذين هما بالأصل مشروعان أميركيان بامتياز، ومن يريد أن يشكك فليفتح دفاتر كوندا ليزا رايس وجورج دبليو بوش وليدقق في التصريحات المتواترة لكلينتون «النسخة الشقراء» عن رايس.