، نتحدّث عن فريق العمل وتدبّ الحماسة في أوصالنا لدى سماع هذا المصطلح حتّى إذا انخرطنا فيه بدأت أنانيّتنا تكشّر عن أنيابها ، وعاودنا الحنين إلى العمل بصورة فرديّة .
وما أكثر تلك الدراسات التي قام بها علماء التربية والاجتماع والنفس في عالمنا العربيّ وهم يحاولون الاقتراب من هذه المشكلة سعياً للوصول إلى علاج فعّالٍ يريحنا منها ومن شرورها التي لا تعَدّ ولا تُحصى ، فعزوا ذلك إلى استبداد العربيّ بقراره وتشبـّثه برأيه تشبّثاً أعمى ، وربّما عادوا إلى جذوره القديمة واقتحموا الخيمة التي استقبل نور الحياة فيها وما رافقها من شظف العيش وقسوة الحياة فعدّوا ذلك سبباً من أسباب غلظة الطباع والعناد والتجبّر التي تستطيع العثور عليها إذا قمتَ بحكّ جِلد المواطن العربيّ ، ووصل بعضهم إلى قناعة راسخة مفادها أنّ استبداد العربيّ بقراره طبعٌ يتغلغل في أعماق سريرته لا تطبّعٌ متكلَّف قد ينجو من حبائله يوماً ما .
ويطيب لهؤلاء الاستشهاد بورود ( أنا ) في الشاعر العربيّ بصورة مبالَغٍ فيها ، حتّى عندما يعلن العربيّ انضواءه تحت راية الجماعة التي ينتسب إليها ويفاخر بهذا الانتساب أيّما مفاخرة .
يقول دريد ابن الصمّة :
وما أنا إلاّ من غزية إن غوتْ
غويتُ وإن ترشدْ غزيّة أرشدِ
وقبله قال امرؤ القيس :
أنا الشاعرُ المرهوبُ حولي توابعي من الجنِّ تروي ما أقولُ وتعزفُ
وجاء المتنبّي فيما بعد ليقول :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعتْ كلماتي مَنْ به صممُ
وإذا عدنا إلى هؤلاء وذكّرناهم بقصيدة عمرو بن كلثوم التي تعلو فيها كلمة ( نحن) على كلمة ( أنا) ؛ ردّ هؤلاء بأنّ هذه القصيدة جاءتْ تعبيراً عن حالة نفسيّة عابرة وأنّ (نحن) إذا دقّقنا النظر في ملامحها فإننا نجد أنها في حقيقة الأمر ( أنا) متخفية برداء (نحن ) .
ولعلّ مطلع المعلّقة يشي بما فيها من أسرار :
ألا هبّي بصحنكِ فاصبحينا
ولا تبقي خمورَ الأندرينا
فالشاعر لا قومه هو الذي يطلب معاقرة الخمرة لكنّ طقوس القصيدة أملتْ عليه التحدّث (بنا) الجماعة الدالّة على الفاعل هنا لا الفاعلين .
لقد فعلتْ هذه ( الأنا ) فعلها السيّء في الذهنيّة العربيّة ، ولم تكنْ هذه الذهنيّة في بداية الأمر متنبّهة للآثار السلبيّة التي يمكن عن هذا الفعل ، وعندما انتبهتْ كان الأوان قد فات وأصبحتْ إزالة تلك الآثار مسألة غاية في الصعوبة ، وفيما بعد انتقلتْ تلك الذهنيّة إلى مرحلة التخفيف من ضرر تلك الآثار واستغنتْ عن الرغبة في إزالتها بشكل نهائيّ .
أمّا نتائج الوصول إلى هذه المرحلة فحصدناها رفضاً في العمل مع الآخرين ،ودفاعاً مستميتاً عن كلّ خطوة نقدم عليها حتّى لو كانت تلك الخطوة ماضية في الاتجاه الخاطئ ، وتعصّباً أعمى للرأي حتّى لو كان مبنيّاً على رمال الضلالة والابتعاد عن الصواب .
ووصل الأمر ببعض من يشنّع علينا إلى حدّ رمينا بتهمة نحن منها بريئون ، وهي تهمة عجز المواطن العربيّ عن فهم معنى الديمقراطيّة التي ظلّتْ مصطلحاً غائماً في أذهاننا ، اختلط بمفاهيم أخرى فتلاشت المسافة بين الديمقراطية والخروج على القانون وكلّ ذلك مردّه إلى غموض المصطلح :
لم نميّزْ محبّبَاً من بغيضٍ
في الدّجى لا تُميَّزُ الألوانُ
ولمن يرمينا بهذه التهمة نقول له إنّ العربيّ يحترم الرأي الآخر ولا يتشبّث برأيه إلاّ إذا كان على حقّ ونحن من قال : شارك الناس في آرائهم تشاركهم في عقولهم ، ولا نقبل الاستبداد في الرأي لأنه منزلق خطير إلى الهوى ، والهوى ما خالط شيئاً إلاّ أفسدهُ.