حيث أزيحت من أمامهم الحجج التي كانوا يتمسكون بها ويعتبرونها عائقاً يحول دون قيامهم بالتسديد، إذ يأتي المرسوم التشريعي رقم ( 51 ) الصادر في الحادي عشر من آب الجاري سادّاً لمختلف الذرائع التي كان الكثير من المقترضين المتخلفين عن التسديد يتذرّعون بها على أنها تحول دون قيامهم بتسديد الأقساط، سواء كان ذلك اختباءً وتملّصاً للهروب من مسؤولياتهم في إعادة الأموال التي اقترضوها إلى البنوك، متوهمين بأن الأحداث الأمنية على الساحة السورية سوف تفضي إلى خراب ودمار ينتهي بعدم تسديد القرض وعدم وجود من يطالب به أصلاً.. فتصوروا إلى أين وصل هؤلاء الواهمين بتطلعاتهم المعيبة في حدّها الأدنى لأنها تستحق أوصافاً أقسى من ذلك بكثير..!! وسواء كان ذلك التخلف عن التسديد ناجماً عن ضغط حقيقي فرضه الأمر الواقع والظروف الصعبة الناجمة عن الأحداث الجارية في سورية فعلاً، من خلال انعكاسها على الإنتاج والدّخل.
ذرائع المقترضين
منذ نحو عامٍ من الآن ( وتماماً في 28 أيلول من العام 2011 ) صدر مرسوم تشريعي بإعادة جدولة ديون المقترضين من المصارف الذين يتخلفون عن سداد الأقساط على خلفية أن الأحداث التي تمر بها سورية قد حالت دون متابعة الإنتاج وبالتالي توقف الدخل عند المقترضين، وإن كانت هذه الحجة صحيحة عند البعض فهي ليست أكثر من ذريعة عند البعض الآخر، وعلى الرغم من ذلك صدر ذلك المرسوم التشريعي آخذاً الأمور كلها على محمل حسن النية، ووضع جميع المقترضين المتخلفين في بوتقة واحدة من حيث الموقف منهم وإن اختلفت أساليب التعاطي تبعا لطبيعة القرض لا لطبيعة الموقف، وفتحت المصارف وقتها أبواب المصالحة على أساس التسوية التي أقرّها المرسوم والتي ترتكز على ثلاثة مرتكزات أساسية :
الأول : أن لا يكون قد مضى على المقترض المتخلف أكثر من ( 180 ) يوماً ( أي نصف سنة ) عن تسديده لآخر قسط.
الثاني : أن يبادر المقترض إلى تسديد دفعة حسن نية للمصرف لا تقل عن 15% من الاستحقاق للمصرف .
الثالث : أن يحسب المقترض المتخلف عن السداد حسابه بأن ينهي عملية المصالحة وتسديد الحساب بالكامل خلال خمس سنوات .
وطبعاً هذا كله بعد إعفاء هؤلاء المقترضين من مجمل فوائد التأخير والغرامات غير المسدّدة.
أتذكّر قبل صدور مرسوم التسوية الأول هذا، كنّا ( أنا وبعض الزملاء الأعزّاء ) بزيارة لمدير عام المصرف الصناعي الدكتور أنيس معرّاوي وأخبرنا وقتها أن مرسوم التسوية صار بحكم الصادر فقد حظي بموافقة الحكومة ورفع إلى الرئاسة للتوقيع والإصدار، ولم يخفِ الدكتور معرّاوي وقتها تفاؤله الكبير من اعتماد هذه التسوية التي ستنقذ المصرف المتوقف عن الإقراض، وبمقابل ذلك ستحفز المقترضين المتخلفين عن التسديد على استثمار هذه الفرصة التي تمهّد لهم الطريق للتخلص من مختلف الفوائد والغرامات المترتبة عليهم والناجمة عن تخلّفهم السابق في السداد، مشيراً وقتها إلى أنَّ مجرد قيام المقترضين بتسديد دفعة حسن النية فهذا يعني أن المصرف قد انطلق فعلياً لضمان العديد من المليارات التي سوف تصبُّ في خزائنه ناهيك عن الدفعات المتعاقبة التي سوف يتلقاها المصرف من الأقساط التي سيجري الاتفاق عليها.
تفاءلنا خيراً وعدنا وقتها إلى الصحيفة لنصيغ تقريراً يُبشّر الرأي العام بهذا المُرتقب القريب الذي نشرناه سريعاً وكان ذلك في 27/9/2011 م، أشرنا فيه إلى أنَّه وبهدف الحد من تأثير المتغيرات الاقتصادية العالمية على الصناعة الوطنية أقر مجلس الوزراء مشروع القانون المتضمن إعادة جدولة القروض والتسهيلات المستحقة غير المسددة الممنوحة للصناعيين المتأخرين وسداد التزاماتهم تجاه المصارف العامة حتى غاية صدور هذا القانون وإعفائها من عامل الفوائد المستحقة والغرامات غير المسددة بتاريخ إجراء الجدولة وتسديد أرصدة القروض المشار إليها على أقساط نصف سنوية لمدة لا تتجاوز خمس سنوات، ويشمل هذا المشروع الصناعيين أصحاب المشاريع المدينين الذين يحملون سجلاً صناعياً أو سجل حرفة صناعية، والذين حصلوا على قروض وتسهيلات لتمويل مشاريع صناعية ، والمتأخرين عن سداد التزاماتهم لمدة تتجاوز 180 يوماً ولغاية صدور القانون أو المرسوم الذي بموجبه سيتم إعفاء الصناعيين من كامل الفوائد والغرامات المستحقة غير المسددة لغاية تاريخ إجراء الجدولة ويتم توزيعها على أقساط مناسبة مع أقساط الدين المجدول على أن تكون الجدولة نصف سنوية ولمدة خمس سنوات كحد أقصى.
وبين د. معراوي أن كل قرض يتم منحه التسهيلات على حدة بحيث تبدأ مدة الجدولة من تاريخ توقيع الاتفاق الذي يتم بناء على طلب الجدولة والذي يتم تقديمه إلى المصرف المعني خلال فترة سريان هذا المرسوم أو القانون وبذلك يتم إيقاف جميع إجراءات الملاحقة القانونية وتنفيذ الأحكام القضائية المبرمة بحق المدينين والكفلاء اعتباراً من تاريخ حصول المدين أو المتدخل على قرار بتسوية وضعه طبقاً لأحكام القانون.
ولفت د. معراوي وقتها وذلك في أواخر شهر أيلول من عام 2011 إلى أن قيمة الديون المتعثرة التي ستتم جدولتها تصل إلى 14 مليار ليرة سورية، إضافة إلى دفعة حسن النية والمقررة بـ15٪ من الرصيد بعد رفع الغرامات والفوائد، ويتم سداد دفعة حسن النية من قبل طالب التسوية مع تقديمه لطلب التسوية وذلك خلال مدة أقصاها 31/12/2011، منوّهاً إلى أنَّ هذا الإجراء يتطلب تخمين الضمانات وإصدار قرار التسوية خلال عشرة أيام ويتم توقيع اتفاق التسوية خلال شهر من تقديم الطلب، مشيراً إلى أن دفعات حسن النية على المبالغ المتعثرة يمكن أن تعود على المصرف بنحو 2 مليار ليرة سورية وهذا من شأنه تحسين سيولة المصرف رغم أنه سيترتب على المصرف ضياع فرص ربح لنحو 3 مليارات ليرة سورية نتيجة الإعفاء من الفوائد والغرامات المترتبة.، وأوضح وقتها أن المشروع سيشمل نحو خمسة آلاف متعامل تعثروا عن تسديد ديونهم، وأوضح المعراوي أن هذا الإجراء سيعكس فائدة ملموسة على الصناعيين من خلال الإعفاءات التي تصل أحيانا إلى 200 مليون ليرة للصناعيين الكبار كما ستنعكس ايجابياً على المصرف من خلال تسوية الأوضاع وإعادة الديون متوقعاً أن تتحسن أوضاع المصرف خلال المرحلة المقبلة نتيجة هذا المرسوم أو القانون.
بعد يوم فقط، أي في 28 / 9 / 2011 م صدر التشريع فعلاً وكان المرسوم التشريعي رقم ( 121 ) القاضي بإعادة جدولة القروض والتسهيلات المستحقة وغير المسددة الممنوحة للصناعيين المتأخرين عن سداد التزاماتها تجاه المصارف العامة كما تعفى من كافة الفوائد المستحقة والغرامات غير المسددة بتاريخ إجراء الجدولة.
بعد أيام، تلتها أسابيع .. ومن ثم شهرٍ وشهرين حاولنا خلالها الاتصال مع الدكتور معرّاوي للاطمئنان عن مدى إقبال الصناعيين والمستثمرين على تسديد التزاماتهم في ظل مرسوم التسوية، ولكن عبثاً.. فالجواب يأتينا دائماً إما أنه خارج المكتب، أو عنده ضيوف، أو باجتماع لمجلس الإدارة، وهُيّئ لنا وقتها أن الرجل منشغل في اتفاقيات التسوية التي تنهال على المصرف، ولكن بعد أشهر عديدة من تلك المحاولات أدركنا أن الوضع سيء جداً، والإقبال على التسوية كان أضعف بكثير من توقّعات الحد الأدنى، وانتهى إلى علمنا أخيراً أن المقترضين المتخلفين عن السداد يعترضون على المرتكزات الثلاثة التي ذكرناها آنفاً، معتبرين أنها تشكل عائقاً في الانضواء تحت مظلة مرسوم التسوية ، فمدّة (180) يوماً اعتبروها قصيرة، و15% كدفعة حسن نية كبيرة ولا طاقة لهم بدفعها، وكذلك مدة خمس سنوات كحد أقصى لسداد القرض بالكامل هي مدة قصيرة.
الاستجابة لمطالب المتخلفين
بعد نحو عام على صدور ذلك المرسوم الذي لم يسجّل أي تجاوب يُذكر، اقتنعت البنوك على ما يبدو بذرائع المقترضين، فاستجابت وقامت بإعداد مشروع مرسوم مصالحة جديد راعت فيه مختلف تطلعات المقترضين المتخلفين عن السداد، وعُدّلت بالفعل تلك المرتكزات الثلاثة، فقد لوحظ أن المرسوم التشريعي الجديد رقم 51 للعام 2012 القاضي بأن تعاد جدولة القروض والتسهيلات الممنوحة للمتعاملين المتأخرين عن سداد التزاماتهم تجاه المصارف العامة ويتم الإعفاء عن كامل فوائد التأخير والغرامات غير المسددة فقط بتاريخ إجراء الجدولة .
فهذا المرسوم الجديد لم يأتِ على تحديد فترة لا ( 180) يوماً ولا غير ذلك، ولا ندري إن كانت التعليمات التنفيذية التي كُلّفَ وزير المالية بإصدارها سوف تتناول هذه المسألة، كما أنه خفّض دفعة حسن النية من ( 15% ) إلى فقط ( 5%) وأعطى انفراجاً في مهلة التسديد من خمس سنوات إلى عشر سنوات، ما يعني أنه لم يبقَ حجة على المتخلفين عن سداد القروض في المبادرة إلى البدء في إجراءات المصالحة.
أخيراً
تبقى المصارف والمتعاملين المتخلفين عن التسديد بانتظار التعليمات التنفيذية للمرسوم الجديد رقم ( 51 ) التي من المفترض أن يصدرها وزير المالية، والتي ستوضح الآلية التي سيتبعها الطرفان في عملية المصالحة وإغلاق هذا الملف الذي نتوقع – وبحذرٍ لا يُنكر – أن يعمد المقترضون المتخلفون إلى معاودة البحث عن ذرائع جديدة للتملّص من التسديد ويتنكرون لهذه الفرصة الذهبية متمسكين بتلك الأوهام الرامية إلى نسيان القرض وعدم تسديده نهائياً.
ما نرجوه أن يستجيب الجميع إلى هذه المصالحة والمباشرة سريعاً بالدخول في عملية جدولة الديون المترتبة عليهم، فمن المعيب بعد هذه التسهيلات الجديدة أن نسمع أية ذرائع .