ولاشك أن هذا الغزو سواء كان بإرادتنا أو خارجاً عنها له من المزايا الكثير، إلا أن جانباً سلبياً يقع في الطرف الآخر لا نستطيع معه أن نتجاهل انعكاساتها على حياة أفراد بل حتى شعوب بأسرها.
ونحن في بلداننا النامية أصبحنا أكثر اتكاءً على إفرازات تلك التكنولوجيا وإبداعاتها خاصة عندما تدخل في مجال التفوق والإبهار. وكيف نستطيع مقاومة الإغراء عندما يصبح الحلم حقيقة تقع ضمن حيز المتاح والممكن بل تحت أطراف أناملنا فيما لو ضغط احدنا على أحد الأزرار؟
هذه الأبواب السحرية التي تنفتح أمامنا تحت مسمى (New Technology) أو التكنولوجيا الحديثة لا تكتفي بأن تدعونا للدخول اليها بل إنها تذهب أبعد من ذلك في استلابنا واستلاب شبابنا ومجتمعاتنا حتى غدونا لا نفيد منها بمقدار ما نحصد من سلبيات يغلفها الإبهار ودعوة الاكتشاف.
والشباب وهم يشكلون العنصر الأهم في المجتمعات لابد أن يتعاملوا مع هذه المفاهيم الجديدة بشكلها الحقيقي وهو استخدامها في التنمية والمعرفة والاطلاع، وليس بنوع من التقليد الممسوخ لمجتمعات أخرى أفسدتها الرفاهية والحرية.
أدوات حضارية ليس أولها الهاتف النقال، وكاميرات الفيديو، وأجهزة الحواسيب، ولا آخرها المشروعات الصناعية مختلفة الأدوات، فماذا لو أننا استوردنا كل هذا ولم نهيئ كوادرنا من الخبرات الشابة لكي تتعامل مع تلك الأجهزة والمخترعات؟ والخطر الأكبر عندما نقذف أطفالنا في عالم سحري وغامض يحقق لهم رغباتهم في الاتصالات والانترنيت دون أن يكون لدينا مشروع لتهيئتهم لتطويع التكنولوجيا لمستقبلهم.
لهؤلاء الشباب والأطفال واجب علينا بأن نصلهم بينابيع المعرفة، وأن نفتح أمامهم نوافذ العلوم التكنولوجية ليظهر من بينهم العالم والمخترع وعلى الأقل الصانع لهذه الأدوات الحضارية، فلا يعودوا مستهلكين ولا يكونوا هالكين في الوقت نفسه.
إن هذا الاجتياح الرهيب للتكنولوجيا لا يمكن أن يوقفه أحد أو أن نبقى بمنأى عنه، فهو كالبحر المضطرب الهائج فإما أن نقذف بأنفسنا فيه لنصل الى بر الأمان، وإما أن نغرق فيه ونترك وراءنا أرضنا، وثرواتنا، ومعارفنا لمن حمل راية التفوق التكنولوجي باسم الحضارة ليزداد تفوقاً، ويتسع في مفهوم الحضارة وقد اختصرت في هذا الزمن بالتكنولوجيا فقط، بينما الحضارة في الحقيقة هي غير ذلك، هي فنون، وعلوم، وقيم روحية، وإبداعات لا نهاية لها، وكأنما حضارتنا الحديثة التي اصطلحنا على اقترانها بالتكنولوجيا تأكل نفسها أو تحاول أن تدمر الحياة على الأرض. وكأنما الاحتباس الحراري الرهيب هو جرس الإنذار لهذه الحضارة بأن تتلفت وراءها الى مقومات الحضارات الأخرى، وتتطلع أمامها الى حضارة إنسانية تجعل الإنسان يعيش ولا تترك الطبيعة تموت.
والحضارة في مفهومها العميق هي كل واحد لا يتجزأ بينما تتكامل أجزاؤه بعضها مع بعض، فحضارة امة من الأمم هي مخزون ماضيها، ومنتج حاضرها، وحلم مستقبلها. وإذا كنا قد التصقنا في زمننا الحالي كل هذا الالتصاق بالتكنولوجيا والى الحد الذي أصبح فيه مقياس الحضارة لدينا يقاس بمدى هذا التطور التكنولوجي، أقول مادام الالتصاق قائماً على هذا النحو فإن عناصر الحضارة الأخرى إن لم تغب فستكون حاضرة بشكل باهت، بينما العقول لم تزل مقتنعة بأن على تطورنا التقني العلمي أن يظل مندفعاً في طموحاته، والقلوب تخفق فرحاً عندما يمد الإنسان المعاصر يديه ليتلقف مزيداً من تلك الإبداعات التكنولوجية الأكثر جدة.
إن الضوء القوي الكاشف قد يبهرنا ولكننا لا نريد أن يصيبنا بالعمى، وامتصاص القدر اللازم من هذا الضوء هو الذي ينير طرقاتنا، وهو الذي يريح وجداننا في أننا نأخذ مما منحه الله لنا من عقل وحكمة ما يسدد خطواتنا في هذه الدنيا.