ما جرى لي أمس مضحك مبك في آن واحد، فلقد قبضت مستحقاتي، عن مدة خدمتي في الدولة حوالي خمسين ألف ليرة سورية، وضعتها في ظرف داخل جيبي الداخلي،
فرحت بها لأنني كنت أنوي أن أبدأ عملاً صغيراً، وأن أؤسس لعمل يقيني شر العوز في المستقبل، ولا أذيع سراً إذا ما قلت إن هذا العمل، هو اختيار زاوية في حارتي أبيع فيها على رف مصنوع من الخشب جرائد ومجلات مستوردة ومن البلد، وهي الشغلة الوحيدة التي أتقنها بعد تقاعدي من عملي في أرشيف أحد الدواوين الحكومية، مشيت بجبهة باذخة ونفسية مشرقة وأنا أمني نفسي بربح أكيد من عملي الجديد.
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فلقد كنت أسير على ضفة نهر صغير يقطع وسط البلد، عندما زلت قدمي بفعل قشرة موز كان ألقاها أحد المتلذذين بأكلها فإذا بي داخل النهر، وباعتباري لا أجيد السباحة صرت أخبط يدي في الماء وأصيح: أنقذوني! وهب عدد من الشبان لنجدتي، بعد أن بلعت قدراً كبيراً من ماء النهر، ولم تكن هذه هي المشكلة، فالمشكلة التي لم أجد لها حلاً أن الظرف المحشو فيه المبلغ قد طاف على سطح الماء وانتشرت الآلاف على سطح الماء، كأنها أوراق شجرة تشلح أوراقها في الخريف! فيا للمصيبة وسوء الحال!
(2)
وقعت في حيص بيص، فالشبان الذين هبوا لنجدتي أغرتهم الآلاف الماشية على سطح الماء، فراحوا يقذفون بأجسادهم لالتقاط ما يستطيعون الإمساك به، فمنهم من استطاع، ومنهم من لم يلحق بالآلاف التي كانت تركض على سطح الماء، أما أنا فقد أغمي علي، ولولا شهامة شاب أدركني قبل أن أتمدد في قاع النهر الصغير، لكنت قضيت، بسبب تلذذ أكل موزة بإلقاء قشرتها على الضفة، يا للموز وساعته!
(3)
ضاع رأسمالي الذي أمضيت من أجله أكثر من ثلاثين سنة في وظيفتي، وضاع حلمي بفتح ركن لبيع الصحف والمجلات، والخمسون ألف ليرة إما ضاعت في الماء الجاري، أو ذهبت إلى بيوت الذين التقطوها، لكيها، وجعلها صالحة للاستعمال، ولكن هيهات أن تبقى صالحة تماماً!
(4)
وكأن القدر أراد أن يمد لسانه لي ذات صباح، عندما قبضت ألف ليرة من صديق، كان استدانها مني، فوجدتها مجعلكة، وعندما سألت عن سبب ذلك قال:
- يبدو أن صاحبها قد نسي واستحم بها!!
ولم أقل له إنني أنا المستحم الذي بلل تقاعده وجعلكه، وأضاعه، على الرغم مني بلعت الموس وسكت فكأن على رأسي الطير.
ومجنون يحكي وعاقل يسمع.