تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


دون كيخوته بين يدي ..ميغيل دي أونامونو..

كتب
الأربعاء 29-2-2012
شهدت القرون الأربعة الماضية، أي أربعمئة سنة الأخيرة التي تلت صدور رواية ثربانتس العظيمة، سيلاً جارفاً، من النصوص التي تحاول تفسير العمل وتقويمه، وكان كتاب وفلاسفة وأدباء كل عصر يفهمون الكيخوتي على طريقتهم،

فيبرزون طبيعته الساخرة من كتب الفروسية، ووظيفته التهكمية من رذائل وعادات معينة، وموقفه في الدفاع عن المثل العليا و(تقويم الاعوجاج) على حد تعبير دون كيخوته نفسه فضلاً عن التركيز على طبيعة العمل الروائية الواقعية التي دشنت مسار الرواية العالمية بمفهومها الحديث، ويندرج عمل ميغيل دي أونامونو (حياة دون كيخوته وسانتشو) ضمن ما يمكن أن نقول إنه يحاول المواءمة بين الدراسة الأدبية والتأملات الفلسفية.‏

وقد نشر هذا الكتاب أول مرة عام 1905 أي عام الذكرى المئوية الثالثة لصدور رواية ثربانتس، وكان قد سبقه في إسبانيا تلك المرحلة كم هائل من الأدب التجديدي الإصلاحي ساهم أونامونو نفسه في إثرائه، بصورة متوالية وحاسمة وأعمال ومقالات مهمة حول فيها دون كيخوته، ضمن موضوع التجديد، إلى مركز تأملاته حول أسباب انحدار الإسبان وسباتهم، والبحث عن حلول للخروج من ذلك الوضع، فجعل منه مثلاً لفارس الإيمان، الإيمان بمثل دون كيخوته في إصلاح الاعوجاج ونشر العدالة والمحبة.‏

وكانت رواية ثربانتس قد تلقت في القرن التاسع عشر دفعة كبيرة حولت الكيخوته إلى أسطورة، وذلك بما قدمه الرومانسيون الألمان من قراءات مثالية للكتاب وسعت من انتشاره عالمياً، وفي هذا السياق جرى تحويل بطل رواية ثربانتس إلى مادية أولية لكل داعية، حيث يعتقد كل شخص أنه يرى فيه تلك القيم التي توافقه أيديولوجياً، فالتجديديون فتحوا الباب لاستخدام نص ثربانتس من مختلف المواقع الايديولوجية.‏

وهكذا نجد أن هناك قراءات فوضوية كما في ما كتبه ألفريدو كالديرون (دون كيخوته فوضوياً 1905)، وما كتبه بعده بقليل مانويل لوخيلدي في (شخصيات فوضوية من خلال الكيخوته) وقراءات ليبرالية لدى الروائي بنيتيو بيرث غالدوس، ومقاربة أونامونو لكتاب ثربانتس جاءت ضمن سلسلة أعمال أخرى، سابقة ولاحقة، قدمها كتاب جيله، من أمثال كاخال وسيليو وكثيرين غيرهم، ويصل دون كيخوته أخيراً إلى يدي أونامونو.‏

ويعتبر النقاد كتاب أونامونو هذا (حياة دون كيخوته وسانتشو) أحد أفضل ممثلي أولئك الكتاب لتلك المرحلة، ففي هذا العمل يدخل أونامونو حتى نخاع ثربانتس والكيخوته ودولثنيا وسانتشو، وقد فعل ذلك بزخم وعمق جعلا معاصره وصديقه الشاعر أنطونيو ماتشادو يقول فيه قصيدة يقول فيها: (هذا الدون كيخوته.. ميغيل دي أونامونو، الباسكي القوي - يرتدي الدروع الفجة - ويعتمر الخوذة التافهة.. يهمز جنونه بمهمازين من ذهب، غير عابئ بألسنة النميمة وعلى شعب من البغالين يملي دروساً بالفروسية).‏

الحقيقة إن اهتمام أونامونو بكتاب ثربانتس وبشخصية دون كيخوته ليس وليد لحظة معينة، فلدى أونامونو نتاج كيخوتي حقيقي سابق وتال لكتابه هذا، فقد كتب في عام 1905 نفسه مقالة بعنوان (حول قراءة الكيخوته وتفسيره) ومقالة أخرى بعنوان (ضريح دون كيخوته) وهو النص الذي أضافه في مطلع الثانية من كتابه هذا الصادرة عام 1914، كما أنه يتناول شخصية دون كيخوته في كتابه (الشعور المأساوي بالحياة) كما فعل ذلك في دراسات عديدة أخرى، منها (عظماء، زنوج وشهداء، ودون كيخوته وبوليفار.‏

وكان قبل ذلك كله قد كتب ثلاث مقالات في العام 1898 هي على التوالي (الموت لدون كيخوته) و(الحياة لألونسو الطيب) و(المزيد حول دون كيخوته) ويشير أونامونو في الفصل الرابع والستين من القسم الثاني من (حياة دون كيخوته وسانتشو إلى تلك المقالات وبصورة خاصة إلى مقالة (الموت لدون كيخوته) ويطلب المعذرة لإطلاقه صرخة الموت تلك ضد دون كيخوته: (أنا أطلقت ضدك، يا سيدي دون كيخوته، دعوة الموت تلك، فاغفر لي، لأنني أطلقتها ممتلئاً بنية سليمة وطيبة، وإن كانت خاطئة، أطلقتها بحب لك، ولكن الأرواح الشحيحة، تلك التي أفسدها صغارها أخذت كلامي على عكس ما أردته، وبينما أنا أسعى لخدمتك، ربما أكون قد أسأت إليك، سامحني إذاً يا عزيزي دون كيخوته على ما يمكن أن أكون قد أسأت إليك.. سامحني إذاً يا عزيزي دون كيخوته على ما يمكن قد سببته لك من أذى حيث أردت لك الخير، أنت من أقنعتني بخطر الوعظ بالعقل بين تلك الأرواح المتحجرة).‏

يهرب أونامونو في (حياة دون كيخوته وسانتشو) من الطريقة التقليدية في قراءة عمل ثربانتس التي سار عليها التجديديون من أبناء جيله، ففي طرحه أسطورة الكيخوته، لم يتبع أونامونو الدروب التي خطها غيره من التجديديين الإصلاحيين، وإنما استفاد من شخصية لكيخوته بصورة أساسية ليحدد نفسه في دور المثقف المصمم على لعب دور البطولة، وكتاب (حياة دون كيخوته وسانتشو) ليس في الواقع إلا صورة ذاتية يقدمها أونامونو لنفسه، مزينة بمجموعة من القيم (الإيمان، الشجاعة، الجنون، العاطفة..) كي يعرض نفسه للقارئ كمثال لبرنامج حيوي، وهو برنامج خاص بأونامونو قبل أن يكون لثربانتس، فدون كيخوته هو القناع الذي اختاره أونامونو ليفسر ويبرر نفسه.‏

ينطلق أونامونو في تأملاته حول شخصية الكيخوته من إنكار أي مغزى موضوعي إلى هذا الحد أو ذاك في كتاب ثربانتس ويبقي خطابه على الدوام من تجربة واردة في الكتاب، ترفع هذه التجربة لديه إلى مقولة فلسفية، ثم تحول إلى نظرية.‏

يتابع أونامونو بدقة تسلسل حبكة الكيخوته كما هي عند ثربانتس ويتيح له الاقتباس النصي اختيار المقاطع التي يفترض أنها أثرت بقوة أكبر على مخيلته، بينما تراه يختزل للقارئ تلك الأجزاء من قصة النبيل العبقري والتي لا تتوافر على الرسم الذي يخدم مصالحه.‏

فصلاً ففصلاً يعمد أونامونو إلى الكتابة، على طريقته، فارضاً روايته ورؤيته على القصة التي قدمها ثربانتس لمغامرات دون كيخوته، إنها عملية تحوير بارعة تستحق نتيجتها التأمل، لأن من ذكر أن أونامونو أبرز ممثلي كتاب جيله وكان محط تقدير واحترام جميع كتاب جيله الذين اعترفوا بمهابة شخصيته وعمق أفكاره وتشويق أسلوبه وعلى الرغم من أن قلقاً فلسفياً وجودياً يسيطر على أعماله كلها، إلا أن ذلك لا يفقدها قيمتها الأدبية ويلمس في رواياته ودراساته إحساس كبير بالقلق من الموت ورغبة في حياة أبدية تتيح للمرء مواصلة الوجود.‏

الكتاب.. حياة دون كيخوته وسانتشو. - تأليف ميغيل دي أونامونو، ترجمة صالح علماني، صادر عن دار رفوف قطع متوسط في 324 صفحة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية