تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


نـــــزار قبـــــاني.. القصيدة الدمشقية دارنا الدمشقية

ملحق ثقافي
الثلاثاء 17 /1/2006
لابدَّ من العودة مرة أخرى الى الحديث عن دار(مئذنة الشحم) لأنها المفتاح الى شعري، والمدخل الصحيح إليه.وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غيرمكتملة، ومنتزعة من إطارها.

هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتُنا كان تلك القارورة. إنني لاأحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لاأظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا. والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزوارببها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنّة ذراعيها من حيث لاينتظرون.. بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح.ويبدأ الإسراء على الأخضر، والأحمر، والليلكيّ، وتبدأ سمفونية الضوء والظلّ والرخام. شجرة النارنج تحتضن ثمرها.والدالية حامل، والياسمينة ولدت ألفَ قمرأبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ.. وأسراب السنونو لاتصطاف إلاَّ عندنا.. أُسُود الرخام حول الوسطى تملأ فمها بالماء.. وتنفخه..وتستمر اللعبة المائية ليلاً نهاراً..لا النوافير تتعب..ولاماء دمشق ينتهي. الورد البلدي سجَّاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. والليلكةُ تمشّط شعرها البنفسجي، والشمشير، والخبَّيزة، والشاب الظريف، و المنثور، والريحان، والأضاليا. وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكَّر ألوانها ولاأتذكر أسماءها.. لاتزال تتسلق على أصابعي كلَّما أردت أن أكتب. الأدراج الرخاميَّة تصعد.. وتصعد..على كيفها والحمائم تهاجر وترجع على كيفها..ولاأحد يسألها ماذا تفعل؟ والسمكُ الأحمر يسبح على كيفه.. ولاأحد يسأله إلى أين؟ وعشرون صفيحة فُلّ في صحن الدار هي كلّ ثروة أمي. كلُّ زرّ فُلٍّ عندها يساوي صبيّاً من أولادها.. لذلك كلما غافلناها وسرقنا ولداً من أولادها.. بكتْ.. وشكتنا الى الله.. ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر..ولدتُ، وحبوتُ، ونطفتُ كلماتي الأولى.. كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنتُ إذا تعثّرتُ أتعثَّر بجناح حمامة.. وإذا سقطتُ أسقطُ على حضن وردة.. هذا البيتُ الدمشقيّ الجميل استحوذ على كلّ مشاعري وأفقدني شهيَّة الخروج الى الزقاق.. كما يفعل كلُّ الصبيان في كلّ الحارات.. ومن هنا نشأ عندي هذا الحسُّ (البيتوتيّ) الذي رافقني في كلّ مراحل حياتي. إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الإكتفاء الذاتي، يجعل التسكّع على أرصفة الشوارع، واصطياد الذباب في المقاهي المكتظّة بالرجال، عملاً ترفضه طبيعتي. وإذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكاديميّة المقاهي، فإنني لم أكن من متخرجيها. لقد كنتُ اؤمن دائماً أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة، له طقوسه ومراسيمه وطهارته، وكان من الصعب عليَّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجادّ من نرابيش النراجيل، وطقطقة أحجار النرد.. طفولتي قضيتُها تحت (مظلّة الفيء والرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئْذنة الشحم). كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي، كان الصديقَ، والواحةَ، والمشتى، والمصيف.. مدرستي الأولى مدرستي الأولى، هي (الكلية العلمية الوطنية) في دمشق. دخلت إليها في السابعة من عمري، وخرجتُ في الثامنة عشرة أحمل شهادة البكالوريا الأولى (القسم الأدبي) ومنها انتقلت إلى مدرسة التجهيز حيث حصلت على شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة ). موقع المدرسة كان موقعاً بمنتهى الأهميّة. فلقد كانت مزروعةً في قلب مدينة دمشق القديمة، حيث كنا نسكن، ومن حولها ترتفع مآذن الجامع الأمويّ وقبابه، ويتألق قصر العظم برخامه، و مرمره، و أحواض زرعه، وبركته الزرقاء، وأبوابه وسقوفه الخشبيّة التي تركتْ أصابعُ النجَّارين الدمشقيين عليها ثروةً من النقوش. والآيات القرآنية ، لم يعرف تاريخ الخشب أروع منها. وحول مدرستنا كانت تلتفُّ كالأساور الذهبية أسواقُ دمشق الظليلة:سوق الحميدية، وسوق مدحت باشا، وسوق الصاغة، وسوق الحرير، وسوق البزورية، وسوق الخياطين، وسوق القطن، وسوق النسوان.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية