|
المَغـــــزَى الأخــــلاقيُّ لوُجــــود الإنســـــَان ملحق ثقافي يوجد تبايُن بين وجهات النظر الأخلاقية. ويعود هذا التباين إلى الموقف الذي يتخذه الإنسان حيال الوجود الروحي والمادي والاجتماعي. لقد صيغتِ الأخلاقُ في قواعد مختلفة ومتعددة قال بها أناس متباينو الفكر والعقيدة والمذهب. ومن بين وجهات النظر هذه، تسوِّغ المكيافيلِّية الوسيلة بالغاية: فالغاية تبرِّر الوسيلة بأيِّ شكل من الأشكال1[1لذا تُعَد أخلاقُ مكيافيلي أخلاقًا نفعية ترتبط بالمصلحة الخاصة وتسوِّغ الخير الذاتي المؤقت2[2، وذلك لأنها لا تعتمد قبْلية a priori هي قانون نُحِتَ في صدر الإنسان، بل تعتمد المهارة والذكاء المبطَّن بالسلب، وتشجع على ر!بط الأخلاق بالموقف الآني. وهكذا، تكون نظرية مكيافيلي في الخير هدامة لأن الخير، في نظره، يعني المنفعة التي تسوِّغ ذاتها. وبما أن المنفعة تختلف من شخص إلى شخص آخر، ومن فئة إلى أخرى، فإن أخلاق مكيافيلي تخلو من قاعدة عمل. ومن وجهات النظر الأخلاقية الأخرى، نورِد رأيَ نيتشه الذي قسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق العبيد وأخلاق السادة. وقد أدت هذه النظرة إلى خلق سوپرمان نيتشه، أي "الإنسان الأعلى" الذي يتخذ من "إرادة القوة" قاعدةً لفعله ومن تقويض القيم وإعادة تقويمها مثالاً. ولا ندري كيف تستطيع وجهتا النظر المذكورتان أن تصقلا شخصية الإنسان الذي يريد أن يحقق إنسانيته. كل ما نستطيع قوله هو إنهما لم تعبِّرا تعبيرًا صحيحًا عن حقيقة مازلنا نبحث عنها ونسعى إليها لكي نكونها1[3. وإلى جانب هاتين النظريتين، طُرِحَتْ آراءٌ أخرى تحاول أن تضع الأخلاق في قواعد ثابتة لا تتبدل؛ وتُعَد هذه القواعد مجموعة من الأوامر والنواهي. وفي هذا المجال نذكر أنواعًا أربعة منها: 1 - الأخلاق التي تعتبر البساطة والتواضع والتسامح قيمًا عليا: هي أخلاق تمت بصلة وثيقة إلى الشريعة التي تشمل مجموعة الأوامر أو النواهي التقليدية، كما تمت إلى الفعل الأخلاقي الذي يجعل من الإنسان كائنًا أخلاقيًّا متفوقًا 3 [4. 2 - الأخلاق التي تعبِّر عن الفضيلة والمعرفة. وتعود هذه الأخلاق إلى فلاسفة أبانوا أن الفضيلة معرفة والمعرفة فضيلة. وتُظهِر لنا هذه الأخلاق أن المعرفة هي الوسيلة والغاية وأن الجهل مصدر الشر. 3 - الأخلاق "الديموقراطية" التي تفرض على الإنسان أن يحترم غيره وفق قاعدة القانون، وأن يقف وإياه على صعيد واحد، بغضِّ النظر عن بعض الفروق البسيطة. وتُعَد هذه الأخلاق قاعدةً ذهبية لتوطيد العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الناس. 4 - الأخلاق الاقتصادية التي تجعل أخلاق الإنسان نتاجًا لوضعه الاقتصادي. وتجعل هذه النظرية الإنسان فردًا تجمعيًّا واقتصاديًّا، يخضع لقوى الإنتاج المادي ومستواه. وهكذا تختلف وجهات النظر الأخلاقية، بحيث إنها لا تلتقي في نقطة واحدة. فالمكيافيلية لا تُعَد أخلاقيةً في صميمها لأنها لا تطبِّق الأخلاق في كلِّ زمان ومكان، في كلِّ سلوك أو فعل؛ ونيتشه لا يعلِّم أخلاقيةً صحيحة لأنه يعتبر الأخلاق نتيجة لفرض "إرادة القوة" التي هي، في أصولها، غير واعية. ونحن نغفر لنيتشه إن كان قَصَدَ بـ"إنسانه الأعلى" الهدفَ الذي يحققه التطور، أي الصورة المثلى للإنسان. أما القول بأن الأخلاق تقوم في المعرفة، فإنه يحصر مفهوم هذه الأخلاق في فئة الفلاسفة والحكماء والعلماء دون سواهم، وذلك لأنهم وحدهم قادرون على بلوغ المعرفة والفضيلة عن طريق التفكير والتأمل، فتجرِّد مَن لا ينتمون إلى هذه الفئة من الأخلاق لأنهم لم يحققوا مستوى عاليًا من المعرفة، وتجعل من الفئة القليلة العارفة أسيادًا ومن الفئة غير المفكرة الكثيرة عبيدًا – وهذا ما لا تقره الأخلاق التي نعتبرها التعديل الدائم لتحقيق غاية إنسانية شاملة. لذا بقي علينا أن ننادي بنوع واحد من الأخلاق هو أخلاق البساطة والتواضع والمحبة لأنها قادرة أن تكون قاعدة عامة لبني الإنسان قاطبة. نحن لا ننكر أن أخلاق المعرفة والفضيلة درجة عليا في سلَّم ارتقاء الإنسان، ولكننا نأخذ عليها ضيق إطارها؛ فهي تترعرع ضمن حدود فئة واحدة من الناس – فئة قليلة من المفكرين – فيما يبقى الجزء الأكبر من الإنسانية متخلفًا. ولا نشك في أن المعرفة أخلاق عالية إنْ هي طُبِّقَت في سبيل إعلاء شأن الإنسان – ذلك أن أخلاق الإنسان تتطور وتتعدل كلما ازداد الإنسان معرفة، وبالتالي فضيلة. إن معرفتنا للكون تقرِّبنا من شعور خفيٍّ يحتوينا ويرينا! حقيقة عظمى هي الاتصالية الكونية؛ ومن معرفتنا لهذه الحقيقة، أو من شعورنا الطبيعي بها، تنشأ فينا فضيلة كبرى. أما أخلاق نيتشه، المعبَّر عنها بأخلاق السادة وأخلاق العبيد، فإنها تجزئ العالم إلى قسمين: العبيد والسادة. وما لا نشك فيه أن السادة يمثلون الأقلية، بينما يمثل العبيد الأكثرية. وتؤدي هذه النظرية إلى خلق فئة قليلة قائدة وفئة عديدة تابعة، كما تؤدي إلى الديكتاتورية وإلى المساوئ الناجمة عنها، ناهيك عن فوضى تقويم أخلاق السادة والعبيد. لذا لا يمكن لنا أن نقرَّ بأخلاقية إنسان نيتشه الأعلى لأنه إنسان تفوَّق على أقرانه بإرادة وهمية استخلصها من عظمة وهمية! والأخلاق الديموقراطية تعتمد، من جانبها، المنفعة الاجتماعية العامة؛ لكنها تفتقر إلى التقويم الأخلاقي الذي ينبع من وجود قبْلي a priori. ويكون الإنسان، بحسب هذه الأخلاق الديموقراطية، عنصرًا اجتماعيًّا يعمل للمجتمع ويضحِّي في سبيله. لذا لا تتسنَّم هذه الأخلاق الذروة المثلى لأنها تستجيب للدوافع الاجتماعية وتتغاضى عن حقيقة عظمى هي أن الإنسان غاية في ذاته. لذا لا نزال نرى شيئًا من التخلف الأخلاقي في الأنظمة الديموقراطية التي حوَّلت أخلاق الإنسان الطبيعية إلى أخلاق "اجتماعية"، يعمل فيها عامل الحرية بصورة غامضة، وعامل المساواة الذي لا يقوم على قاعدة للمساواة أصيلة، وعامل الإخاء الذي لا يُطبَّق كما ينبغي. يتعذر، في نظرنا، أن تكون أخلاق الإنسان نتاجًا لواقع اقتصادي، ذلك لأننا نفرِّق بين المعيشة والحياة: المعيشة هي الواقع المادي الذي يشير إلى مستوى العيش؛ والحياة هي الوجود ا! لإنساني بكامله وكلِّيته. وفي رأينا أن الإنسان يحيا في نظامين: نظام المعيشة – وهو نظام الزمن – ونظام الحياة – وهو النظام الكلِّي والكوني. وإن كان نظام المعيشة يعتمد على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، بما يجعل الإنسان فردًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، فإن نظام الحياة يعتمد على الوجود في معناه المطلق: دراسة الوجود وفهمه، دراسة الإنسان وفهمه، دراسة الحياة وفهمها، ودراسة الغاية من وجود الإنسان وتطبيقها. وهكذا تتفوق الحياة على المعيشة: الإنسان يحيا أكثر مما يعيش، ويستطيع أن يحيا بقليل من المعيشة وبكثير من الحياة. وهكذا يحيا الأخلاقيون ويعيشون في نطاقات الحياة الإنسانية المتنوعة. ونحن نقف أمام هذه التناقضات الظاهرية، التي ترمي بنا في هوة الحيرة، نسأل أنفسنا: ما الغاية الأخلاقية من وجودنا؟ كيف نبرِّر أخلاقية وجودنا؟ لماذا تجعل هذه الأخلاقية الإنسان غايةً في ذاته؟ كيف يكون الإنسان ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن؟ وما معنى الأخلاق الإنسانية التي نقول بتطبيقها في كلِّ زمان ومكان، وتكون قاعدة عامة، كونية وشاملة؟ نود، في هذا المجال، أن نجعل من موضوعنا بحثًا يؤدي إلى إرساء قاعدة نتخذها سلوكًا إنسانيًّا عامًّا، تتضمن في ذاتها الجوانب الإيجابية من النظريات العديدة المطروحة. ولتحقيق هذه القاعدة، يجدر بنا أن نبحث في الأخلاق من منظار بعض الخصائص التي هي مكوِّنات لجوهر الإنسان. مفهوم قبْلي في الإنسان قدرة فاعلة للخير، هي طاقة طبيعية كامنة فيه. وتتجلَّى هذه الطاقة في تصرفات بسيطة وفي دوافع متعددة للسلوك، كالرأفة، والعطف، والمشاركة الوجدانية، والإصغاء إلى نداء الضمير، وبعض التصرفات الأخرى التي تظهر حتى عند الأطفال الصغار عندما ينبِّهون الكبار بأنهم، على سبيل المثال، لم يكونوا صادقين. وتتجلَّى هذه الطاقة، أيضًا، حتى في أشد الحالات النفسية ظلمًا وكبرياء، عند مَن نُطلق عليهم تسميات اصطلاحية من نحو "مجرمين" و"خطاة" و"قساة"، الذين، في حالات صفائهم، يلجون إلى أعماق نفوسهم ويقرون بضعفهم وتصرفهم الشائن: إنهم يعودون إلى حالتهم الطبيعية الحقيقية التي، من خلالها، يشاهدون الصورة المشوهة التي رسموها لأنفسهم. في الإنسان قاعدة أخلاقية تفعل فيه فعلاً مباشرًا وغير مباشر، واعيًا وتلقائيًّا، روحيًّا وماديًّا، عقليًّا ووجدانيًّا. وتبدو هذه الطاقة كنور ينبعث من أعماق الإنسان ويضيء طريقه. ومهما سار الإنسان في ظلام فكره وقوته الوهمية ورغبته، فإنه يظل يعاين هذا النور الذي يحاول إطفاءه.! إن أحكامنا الأخلاقية أحكام قبْلية، تنبثق من أعماقنا؛ ومواقفنا مواقف قبْلية لأنها كائنة فينا، وتجعلنا نقف أمام موضوع ما موقفًا معينًا؛ وسلوكنا الأخلاقي سلوك قبْلي من وجوهٍ العديدة. ونحن نوافق عمانوئيل كنْط الذي يشدد على وجود قانون أخلاقي في صدورنا، هو فعل آمر يرشدنا إلى تطبيق الحقيقة الكائنة فينا. غاية وهدف القبْلية الأخلاقية منظَّمة في الإنسان، وهادفة أيضًا: إنها تهدف إلى تحقيق مراتب الوجود العليا. ويُعَد السمو الإنساني! الهدفَ الذي يرنو إليه واحدُنا لكي يحقق طاقته تحقيقًا أفضل. ويُعَد الهدفُ الأخلاقي طبيعةً متأصلةً فينا، يعمل في نشاط وفاعلية ليسمو الإنسانُ على انغلاقه المادي المعروف بـ"الأنا". وعندئذٍ يُعتبَر الإنسان غايةً في ذاته لأنه يسعى إلى تحقيق غاية وُجِدَتْ فيه وملازمة له، هي قانون كوني. تتركز غاية الإنسان في تحرره من ماديته – من انغلاقه – والارتقاء بها إلى درجات عليا وسامية. ولا يمكن لتلك الغاية أن تكون عشوائية لأنها متضمنة فيه وداخلة في صُلب تركيبه – فهي قبْلية؛ وبقدر ما هي قبْلية هي هادفة وغائية. إذن، فالفعل الأخلاقي ينطلق من أعماقنا ليرينا أنفسنا في حالة أفضل – كما يجب أن نكون – ويسير بنا إلى مستوى أسمى من وجودنا. وهكذا يحقق الإنسان نفسه؛ أي أنه يحقق الصورة التي سيكونها، التي هي نفسه ذاتها وهي في صيرورتها. وهذا يعني أن الإنسان يحقق نفسه عن طريق الفعل الأخلاقي الفعال والخلاق. وتُعَد كل صورة سامية يرسمها الإنسان لنفسه فعلاً أخ! لاقيًّا ساميًا وسيرًا باتجاه وجود أفضل، هو تحقيق لغاية وُجِدَتْ فيه في صيغة قانون كامل منذ البدء. وكما نعتقد، فإن التطور الإنساني، في المرحلة الأخيرة لوجود الإنسان، هو تطور أخلاقي إلى مثال أسمى يعمل على تجاوز مملكة المادة المغلقة التي سيطرت عليها التلقائيةُ وكانت تبحث عن عقل لتعي ذاتها. فالتطور يعني تجاوز الانغلاق إلى الانفتاح بفعل وعي كامن يحقق ذاته في غاية قصوى. وبالمثل، يمثل التطور الأخلاقي سيرَ الإنسان المثابر في طريق تحقيق إنسانيته – ونعني تحقيق الإنسان الأسمى الذي يعتمد قاعدةَ تفعيل الوعي الكامن من أجل إدراك مبدئه الأول. محاكمة فكرية ومنطقية الإرادة فعل، والأخلاق فعل، والوعي فعل. والفعل الإرادي محاكمة فكرية وقرار عقلي. إني أريد بعد أن أفكر. وتفكيري هو تعقُّل ذاتي للموضوع. الإرادة تنفيذ لموقف عقليٍّ سليم حيال الموضوع. ويُعَد هذا الموقف الذي يتخذه الإنسان سلوكًا أخلاقيًّا؛ إذ لا يخرج هذا السلوك عن دائرة الأخلاق لأن غاية التفكير، أو هدفه، /يكمن في الموقف الذي نحقِّقه كسلوك أخلاقي. إننا نعمل أخلاقيًّا في سبيل غاية لا نستطيع أن نلمسها أو نحسَّ بها؛ وهذا لأن الطاقة الأساسية الموجودة في أعماقنا تفعل دومًا وأبدًا لتحسين واقع الإنسان ورفعه في سلَّم الوجود. وإذا ما سألنا: ما هو الوجود؟ وما درجاته؟، أجبنا بأنها الدرجات الأخلاقية التي نتسنَّمها، الدرجات التي تساعدنا على أن نتعالى عن واقعنا، عن مادتنا، وأن نرتقي بها إلى مستوى الروح. وهكذا تكون الأخلاق مفهومًا ميتافيزيائيًّا يجعل من الإنسان غايةً في ذاته. قمة التطور الإنساني يقول أحد المفكرين إن الإنسان كائن يتأرجح بين الألوهة وبين تلقائية المادة. فما هي العوامل التي تنحدر به إلى تلقائية المادة أو ترفعه إلى مستوى الألوهة؟ الفعل الأخلاقي هو الذي يقرِّر المصير؛ والأخلاق هي التي ترفع الإنسان حتى يبلغ درجة عليا في سلَّم التطور، بينما انعدامُها ينزل به إلى أسفل السلَّم. والحق أن الإنسان عالم كامل، يحمل في كيانه العناصر المادية كلَّها؛ فيه يلتقي العالمان الروحي والمادي: يعبِّر الكون المادي عن الدوافع الحيوية والتلقائية الكامنة؛ بينما يعبِّر الكون الروحي عن الطاقة الخلاقة، الأخلاقية والفكرية، التي تفعل في الإنسان لكي ترفعه إلى مستوى أعلى وتسمو به في عالم كيانه اللامنتهي. وهذا يعني أن تطور الإنسان يتم من ذاته إلى كيانه، من مادته إلى روحه – ونعني أن المادة تتطور لتصبح روحًا: تترَوْحن. وبديهي أن تطوير المادة حتى تبلغ درجة أخلاقية عليا تحتاج إلى فعل إرادي وإلى سموٍّ عقلي: فللانتصار على الحقد نحتاج إلى طاقة كبرى من المحبة والتسامح؛ وللانتصار على الكبرياء نحتاج إلى طاقة كبرى من التواضع والبساطة؛ وللانتصار على انفعالاتنا نحتاج إلى طاقة كبرى من الوعي. إذن، فإرادة القوة تتحقق في هذه المفاهيم البسيطة، وليس في "إرادة القوة" بحسب نيتشه 4[5 إن الغاية من تطورنا غاية أخلاقية وروحية؛ والإنسان يسير، من خلال العلم والمعرفة وتحقيق العقل الناضج، باتجاه عالم روحه. تلكم هي الغاية من وجودنا. تضع نهاية لظاهرة القلق القلق الروحي هو مظهر من مظاهر الوجود لأنه يعبِّر عن توق الإنسان الدائم إلى الحقيقة واضطرابه الوجداني أمامها. أما القلق المادي فهو ظاهرة اجتماعية–اقتصادية تتغلغل في الإنسان وتجعل منه كائنًا يهتم بتحقيق وجوده المادي الظاهري فحسب. فهو يقلق إن لم يحقق معيشةً "مريحة" بالقدر الذي يرغب فيه، ويقلق حيال عالم "فارغ" يلمس عبثه. وهكذا يكون القلق المادي وليد الاضطراب الداخلي الذي يهيمن على مَن لا يحقق رغباته. تعاني البشرية من القلق الناجم عن الحروب والويلات وعن عدم الحصول على درجة معيشة جيدة. وينتج هذا! القلق عن الصراع الداخلي الذي يجعل من المرء عبدًا لرغباته، الضروري منها وغير الضروري. ويأخذ القلق شكل الخوف: يخاف الإنسان من مستقبل غامض، من واقع اجتماعي اقتصادي مضطرب وغير مستقر. إن وضع نهاية لهذا القلق يحتاج إلى قاعدة تنبثق من الإنسان، نسمِّيها القانون الداخلي أو الأخلاقي أو الروحي؛ إنه قانون يبرهن للإنسان بأن وجوده أسمى من أي موضوع يقلق بشأنه. وتُعَد هذه القاعدة قانونًا سرمديًّا يوجِّه الإنسان، ويرسم له طريقًا يوطد الإيمان بنفسه، بحياته ومجتمعه، ويجعله ينظر إلى الحياة الاجتماعية من منظار آخر يختلف كلَّ الاختلاف، ويقوِّم وجوده على أساس أنه غاية تسمو عن الغايات الأخرى.
|