تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مجاز " الصوت والجدار"

ملحق ثقافي
الثلاثاء 17 /1/2006
حسين السماهيجي

بين الباب الموارب والنافذة التي تصل بينك وبين العالَم جدارٌ مبنيّ من حصى بحريّ مزجّج ببعض القواقع. لطالما وقفتَ- وأنت ذو الأعوام السبعة- حائرًا، وقفة إجلال وخشوع أمام ما تركته السنون المتلاحقة على هذا الجدار المهيب.

أبوكَ يهمس في أذنك: هذه "دار" أبي، جدِّك، الذي اسمُكَ اسمُه. قلتَ: حسنًا... لماذا، يا أبت، قاعُها رملٌ بهيّ؟ ولماذا هي تستقبل الجنوب؟ يستدير بطرفه عنك ناحية الباب الموارب: كي تصدّ عن الشمال الممطر، وتستقبل أشعة الشمس في كل الأحوال؛ فنحن قومٌ لا نأنس إلا بالشمس. فيما تلوح بين ناظريك تلك الصورة المهيبة، ثمة صورة أخرى تقترن بها وتتواشج. شيخ يفترش الرمل البهيّ. رجله اليمنى مثنيّة، أمّا اليسرى التي يغطي الثوب الأبيض ثلثي ساقها فممدودة باتجاه باب "الدار". إلى جانبه "نارجيلة" كانت تدار عادةً بينه وبين صحبه كلّ ضحى. كان صوت شحيح يترنّم بهذا البيت الذي عرفتَ قائله بعد سنوات: إذا المرءُ لم يدنس من اللؤمِ عِرْضُهُ فكلُّ رداءٍ يرتـديـه جميـلُ للجدار المزجج بالقواقع نسبةٌ شاهقةٌ بهذا الشيخ القادم من أغوار لا تطمئن إلا إلى العبث المتجدد بجسد الصوت، كلما أتيح له الخروج من أسر الحنجرة العتيد. كلما انطفأ الصوتُ على حافة الجدار، أعاد الشيخ إرسالَه لتتالى النغمات عند الحافة فتتماوج مع نفثاتِه معيدةً تشكيل الضباب والدخان. الصدى يسترسل ببهجة نادرة في الأفق المتوشح بعتمة تصادرها القافية الموجوعة باللام المنحنية كأنثى مقدسة تحضن، في حَبْوَتها، تعبَ البشر الفانين، وتقرّ لهم بحبر يرسم على الجدار صورةَ طفلٍ يتهجّى "الكتاب"، ويبتهج لمعرفة تختصر العالَم في لحظة دفء. نغمة بحرانية أثيرة. ستعتمد صداقتَها لاحقًا مع كل إنصاتٍ مأخوذٍ بتكراراتها اللاهثة، وارتفاعاتِها وهبوطاتِها المدججة بالحزن. وستعلن لأصدقائك القادمين أنّ النَّصَّ- وهو أرض وسماوات ولوح محفوظ وعرش- معمورٌ بخصائص هذه النغمة، ومغمور بأمواجها. أمّا سكّانه فملائكة وشياطين وكائنات لا تحصى. وستكتشف، أيضًا، أنك معمَّدٌ بهذا الماء المقدس الذي اسمه "النَّصّ".. وأنك، في معراجك، عبر سماواته، اطَّلَعْتَ على ما يوقد النار في حافة الاسم، ويذرّي سائر حروفه في النهر العظيم للسلالة المقدسة المنحدرة من بقايا آلهة مصورة بالكلمات. الصوتُ والجدار... كلاهما مزجج بالقواقع. ذاك منتثر في صداه، وهذا مطوّق بصمته. والكتلة السميكة التي يتكوّنان منها تقاوم فعل الزمن بما تيسّر لها من صلادة وشكيمة هي شكيمة جواد عربي لم تسعفه عناية فارسه بجسده الجميل، فأخذت الأيام تلوِّح جِلْدَه. ولكنْ، لكلٍّ منهما أحاسيس وعواطف، ولعل الغالب أن تكون متناقضة؛ فهما كائنان يوحيان ويوحى إليهما، ويتكهّنان بما هو آتٍ من فعل الزمان ونوائبه.. بهذه العبارة كان الشيخ ينكأ القصيدة الأثيرة لديه. فلا يكاد يفتر عنها حتى يعود إليها، ثم لا يلبث أن ينكفئ بصمته إلى الجدار.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية