دون كيخوته.. إشارات الرواية والراوي
ملحق ثقافي الثلاثاء 17 /1/2006 محمد سليمان حسن ثربانتس.. دون كيشوت تبدأ «المأساة الإسبانية» و رواية «دون كيشوت» أحد أهم مظاهرها و تعبيراتها مع مأساة تحطم أسطول «الأرمادا» الإسباني.
ولد سرفانتس عام /1547م/ و توفي عام /1616م/. اشتغل مع أبيه الطبيب المتجول فيما بعد وتطوع كعسكري بل و خاض معركة /ليبا نتو/ البحرية في سواحل اليونان بين التحالف الأوربي المقدس و بين الأتراك. عاد سرفانتس من هذه الحرب بيد مشلولة. فقد شلت في ساحة الوغى و معركة الشرف. بعد ذلك رافق مجموعة من الشعراء و الأدباء في الحانات فكتب أشعارا استحقت أن يندبها معاصره (لوي دي فيجا). بعد ذلك سجن أكثر من مرة و اتهم بالقتل و معاشرة البغايا و أسر في الجزائر مدة خمسة أعوام و رسم خطط فرار عديدة باءت بالفشل كلها و كتب مسرحيات لم تكن أحسن من شعره مع الأسف ثم اشتغل في سفارات ومهمات خاصة إلى أن اشتغل في تموين «الأرمادا» العظيمة فسجن لسوء إدارته وكان قد قارب الستين من عمره و هو لم يفعل شيئا وزاد الطين بلة أنه دخل السجن هذه الفترة بالذات. في السجن بدأ «سرفانتس» يفكر في حلم «الإرمادا» العظيمة المهزومة وقد بددته طواحين العاصفة البحرية، وبفيليب الثاني ملك إسبانيا، والعمر الضائع، والحلم الضائع، بالوهم والحقيقة، بالصدق والكذب، وبالشعب الإسباني حيث ضاعت «الأرمادا» العظيمة وتشتت. كانت كتب الفروسية الخيالية ورواياتها شائعة في عصر «سرفانتس». لكن لم يكن هناك فرسان على ما يبدو. ربما تداخلت هذه الصور والأفكار في ذهن «سرفانتس» وهو في سجنه فأخرج لنا روايته «دون كيشوت» صورة واقعية خيالية عن إسبانيا في عصره. ويصدرها عام /1605م/. الحياة الاقتصادية والسياسية والتاريخية والدينية في عصر المؤلف•
<<<< د. غبريال وهبة في الوقت الذي كانت فيه إسبانيا في أوج قوتها وعظمتها، بدأت تلوح في الأفق بوادر الانهيار.. فعندما ارتقى «فيليب الثاني» عرش إسبانيا، كانت أقوى دولة في العالم، وبخاصة ممتلكاتها العينية والمالية.. فقد غيرت المعادن الثمينة والذهب المتدفق من القارة الأمريكية وجه إسبانيا في وقت قصير.. ولكن الشعب الإسباني الذي يجهل قوانين المالية للنخبة الحاكمة، ومداخيل نفقاته، فلم يكن يعنيه الأمر، بل يعتبره نذير شؤوم. بلغ عدد سكان إسبانيا أواخر القرن الخامس عشر حوالي تسعة ملايين نسمة بما فيهم العبيد والمغاربة.. وكان مفهوم الشرف هو السائد في العلاقات الاجتماعية-الأخلاقية، إذ كان العصر عصر الفرسان.. كذلك الأمر كانت إسبانيا بلد التزمت الديني في تلك الحقبة، الدين القومي التعصبي، المتوج بمحاكم التفتيش.. فقد بلغ عدد الأديرة في القرن السادس عشر تسعة آلاف دير يعيش فيها اثنان وثلاثون ألفاً. وكانت المواكب الدينية واحتفالات إحراق الأحياء بأوامر محاكم التفتيش من مظاهر الحياة اليومية.. كان فيليب الثاني، وهو حفيد «جان المجنونة»، وابن شارل الخامس، يعتبر نفسه أقوى ملك على الأرض.. فقد كان يحكم نصف العالم، وبشكل مباشر تدار من قبله.. إنه حاكم مطلق يستمد قوته من حقه السماوي.. ولكن إسبانيا لم تكن لتخلوا من توترات داخلية تقلق الملك ومنعته. وتدفع بإسبانيا إلى هاوية الفقر. وكان أحد الأسباب في ذلك طرد اليهود عام /1492م/ ثم المغاربة عام /1609م/ مما أفقر إسبانيا من الخبرة التجارية واليد العاملة. ثم يضاف توسع إسبانيا عسكرياً مما كلفها الكثير من قوتها المادية وبخاصة ما رافق هذا التوسع من حروب.. في مستهل القرن السادس عشر سار التقدم الفكري سواسية مع التقدم العسكري.. كان حجم الحياة الجامعية في إسبانيا كبيراً.. وكانت جامعة «سالامانكا» المبنية في القرن الثالث عشر في نمو مضطرد.. وهناك جامعة (باليادوليد=بلدالوليد) من أقدم جامعات شبه الجزيرة.. وكذلك نشوء جامعات جديدة من أهمها: غرناطة (1526) إشبيلية (1516) بالانيثا (1500) وكذلك جامعة (آلكادا) فقد كانت أعظم المؤسسات الجديدة والتي أسسها الكاردينتال «خيمينيس» عام (1508م).. كما يمكننا تبين نشاط الذهنية الإسبانية من حركة الطباعة فيها. فقد سجل «هيبلر» ما لا يقل عن /720/كتاباً طبع في إسبانيا قبل نهاية القرن الخامس عشر، والذي يبلغ ضعف ما تطبعه إنكلترا في نفس الفترة.. مما يدل على قوة إسبانيا الفكرية ومدى ازدهارها العلمي في تلك الفترة.. حياة ثربانتس عبد الرحمن بدوي -1- هو «ميجيل دي ثربانتس سابدرا Miguel de cervantessavedra». ولد في قلعة «هنارس Hanarse» وعمّد في كنيسة «القديسة مريم الكبرى» في «التاسع» من شهر «اكتوبر» سنة 1547م/. والده الطبيب الجراح «رود ريجودي سربانتس» وأمه «ليونوردي كورتيناس». أمضى طفولته في «بلد الوليد»، ويقال إنه درس أيضاً في «شلمنقة». كما أنه درس في «مدريد» لمدة قصيرة. سافر إلى إيطاليا حيث عمل في حاشية الكاردينال «جوليو أكوافيفا Acquavira» وتعلم اللغة الإيطالية، وقرأ كبار الكتاب الإيطاليين وأعجب منهم »أريوستو» وتأثر لاحقاً بملحمة «أورلندو الغاضب».. انخرط في الجندية سنة /1568م/ مبرزاً شخصية صعبة المراس، واشترك في معركة «الليبانتو Lepanto» البحرية (7اكتوبر سنة 1571م) بين الأتراك وأوروبا المقدسة، والتي انتهت بهزيمة الأتراك، وفي هذه المعركة فقد «ثربانتس» يده اليسرى. كذلك اشترك في حملة «كورفو» اليونانية، وفي مغامرات القرصان وغاراتهم على (نوراين) و(تونس). في طريق عودته إلى إسبانيا أُسر في عرض البحر من قبل البحارة الأتراك وسيق إلى الجزائر ليمضي فيها أسيراً مدة خمس سنوات، حاول خلالها الهرب ففشلت خططه، وحاول أن يتوسط لذلك عند ملك إسبانيا «فيليب الثاني» لكن الوساطة لم تجد، فلم يجد من وسيلة أخرى سوى الفدية بالمال، وتم ذلك سنة /1580م/ بتوسط أخيه في العمادة. بدءاً من عام /1580/ عاش «ثربانتس» في «مدريد» و«بلد الوليد» وتزوج من السيدة «كتالينادي بلا ثيوس» وهي من «أسكبياس Esquivias»، عاش في «إشبيليا» حياة الصخب والمجون، وكان يغشى الأوساط الأدبية لكنه لم يلق الاهتمام المطلوب، وكان مثار الحسد والغيرة من البعض الآخر، فعاش فقيراً معدماً رغم طباعة روايته «دون كيشوت» عشر مرات منذ ظهورها في مدريد سنة /1605/. وظلّ كذلك إلى أن توفي في الثالث والعشرين من «آبريل» سنة /1616م/. -2- كان «ثربانتس» شاعراً، ومؤلفاً مسرحياً، وقصصياً، يكتب الأقاصيص القصيرة والقصة الطويلة. له في الشعر «رحلة البرناسو» (مدريد سنة 1614م). وفي المسرح: «نومانثيا»، «حمامات الجزائر»، «الحلفّ السعيد»، «اوردمالس». أما ميدانه الحقيقي فهو القصة: القصيرة والطويلة. بدأ بقصة رعوية هي «جاليطيةGalatea» التي نشرها سنة /1585م/ وهو في سن السادسة والثلاثين. ثم مجموعة «أقاصيص نموذجية Novelas ejemplares» وهي : الَنّورية، العاشق الحر، رنكونيته، كورتاديو، الإسبانية الانجليزية، المجاز في فيديراميرا، قوة الدم، الغيور الاسترايما دوراوي، الغسالة الشهيرة، الفتاتان، السيدة كورنليا، الزواج الخادع، حديث الكلاب. -3- نشر «ثربانتس» الجزء الأول من هذه الرائعة تحت عنوان «النبيل البارع دون كيخوته دلا منتشا El ingenioso hidalgo don quijote de la Mancha» في مدريد سنة /1605م/ عند الطابع «خوان دلاكوستا». أما مؤثرات هذا العمل فهي متنوعة. فقد رأى «منذث بيدال M.Pidal» أن الفصول الأولى متأثرة بمسرحية قصيرة صاحبها مجهول. والبعض الآخر يرى أنه استوحى العمل من شخصية رجل مجنون. ويقول «مينذث بلايو M.Pelayo» إن في «دون كيخوتة» كل نماذج القصة السابقة على قصته: الرعوية العاطفية، وآثار الأدب الإيطالي. والدافع إلى تأليف هذه القصة هو السخرية من قصص الفروسية التي انتشرت انتشاراً هائلاً في إسبانيا في ذلك العصر- القرن السادس عشر- أما السبب الآخر الذي يورده «عبد الرحمن بدوي» فهو الحياة البائسة الفقير التي عاشها «ثربانتس» والتي جرت عليه الويلات طوال حياته. من فقدانه يده اليسرى، إلى زواجه المتعثر، إلى سجنه عدة مرات، إلى ديونه المتلاحقة، إلى وظائفه التعسة، إلى وسطه الأسري البائس.. فلم يجد خيراً من السخرية والتهكم يستعين بهما لمتابعة حياته، ولم يجد خيراً من القصة لتسجيد ذلك. فجاء عمله هذا صورة حية عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والفكري لعصره الذي ولد فيه. -4- أما شخصيت «دون كيخوتة» فهي شخصية نموذجية إنسانية كبرى.. وقد قال «سلفادورمَدَرياجا» إن دون كيخوتة، وسنشون ودون خوان، وهاملت، وفاوست، هم أعظم شخصيات أبدعها الإنسان، وقد تدثرت صورهم من كل جيل بدثار متزايد من الأساطير والآراء والتفسيرات والرموز. ويؤكد الباحث متابعاً:«إن حالة دون كيخوتة هي حال خداع ذاتي. إنه حالم، خجول في أمور الحب، مولعاً بالفروسية، محب للمسرح، متدين”. أما “سينشو، فهو نغمة أخرى من دون خوتية في مقام موسيقى أخر».
|