في ذكـــرى وفاتــه.. لـــؤي كــــيالي بين الفــــن وأخلاقياته جسد همــــوم الفــــنان والإنســـان المعـــاصر
ملحق ثقافي الثلاثاء 17 /1/2006 محمــــــود مكّـــــي الأساس الأول : يستند فيه الفنان الراحل «لؤي كيالي» إلى مقدرته الفنية في بناء العمل الفني وأسلوبه المتناهي نحو البسـاطة شـكلا ومضموناً خطا ولونا، وتتميز تجربته الفنية بهدف أخلاقي وحضاري يهم الإنسان في حياته ومجتمعه...
والأساس الثاني : يستند الفنان الراحل «لؤي كيالي» في تجربته الفنية الغنية إلى عناصر أخلاقيات الإنسان الخاصة به في تعامله مع الآخرين وكيانه الفني والإنساني معا... وهنا، في هذا المقام، لا أريد أن أتحدث عن «لؤي كيالي» الفنان الذي أصبحت أعماله الفنية تراثا تشكيليا وفكريا في صفحات كتاب التاريخ العربي والحضاري، بقدر ما أريد أن أقدم صورة «لؤي كيالي» الإنسان الحي الذي كان يمتلك سلوكيات أخلاقية في حياته العامة تميزت بالرقي الحضاري لمفهوم الأخلاق السامية من النواحي المتعددة في الحياة الأصيلة، وقد كان الفنان الراحل «لؤي كيالي» قي حياته يردد دائما وفي كل مناسبة خاصة، قائلاً : «لفن موقف من الحياة، وهنـاك ترابط حيوي بين إنتاج الفنـان وسلوكياته ..»
لم يكن الفنان الراحل «لؤي كيالي» فناناً على المستوى التشكيلي السوري فحسب، بل وصل إلى العالمية بتجربته الفنية الخاصة لأسباب كثيرة تتمحور أساسا في سلوكه الأخلاقي كانسان يعيش في بيئته الاجتماعية العربية التي تعشش فيها جملة كبيرة من الحضارات العريقة والعميقة في قديم التاريخ الطويل لأمته، وكمّاً هائلاً من العادات والتقاليد الشعبية الأصيلة ذات الصبغة المحلية والتي اعتمدها في تجربته الفنية... والفنان الراحل «لؤي كيالي» استطاع بعقله المتوقد أن ينطلق إلى العالمية بفنه الخاص باعتماده على المحلية في إنتاج العمل الفني، وأدرك منذ اللحظة الأولى لدخوله ساحة الفن، أن وطنه الغالي عليه دائما، سيكون هو المنطلق الأساسي في تجربته الفنية للوصول به إلى النجومية، كما أدرك أن البحث الموضوعي في معاناة قضايا شعبه، هي الطريق الصحيح للوصول إلى أهدافه الفكرية السامية، فراح يبحث عن الحلول التشكيلية التي تؤهله ليكون شعلة منيرة لبناء وطنه وأمته حضاريا والتي احبهما أكثر من أي شيء آخر في حياته، وقد عبر عن هذا الموقف عندما عاد من آخر رحلة له إلى موطن دراسته «إيطاليا» وهو يقول لمن يصادفه : «كل شيء هراء مقابل أن يعيش الإنسان في وطنه»... كان الفنان الراحل «لؤي كيالي» يمتلك الأسس الفنية والتشكيلية التي تؤهله لمعالجة قضايا الفن والفكر بنوع من الحساسية الفنية الخاصة به، وهذا ما اكسبه أن يكون له مدرسة فنية خاصة به منذ اللحظة الأولى في حياته الفنية والتي ظهرت واضحة جلية في معرضه الأول في صالة الفن الحديث ؛ وقد أدرك، أيضا، أن عليه أن يقدم مواضيعه الفكرية من الحياة بأسلوب فني بسيط، وبخطوط منحنية لينة بسيطة في تكويناتها التشكيلية، وبألوان قليلة ونظيفة ونقية يصل بها إلى منتهى التعبير الفكري الواضح والقوي الذي يستطيع أي مشاهد مهما كان مستواه الثقافي أن يتفهمه ويستوعبه بكل مداخلاته ورموزه المتعددة ببساطة متناهية، وهذا ما جعله جماهيريا... لقد استطاع الفنان الراحل «لؤي كيالي» أن يمزج الواقع العربي ماضيه وحاضره بالمدارس الفنية الحديثة كالواقعية الجديدة والتجريدية والسريالية...؛ وان يزاوج في وحدة بيانية متصاعدة ومتواترة، على حدٍ سواء، بين الألوان المحلية والموضوع الفكري، والأسلوب الفني البسيط والمتكامل في وتيرة واحدة، فكانت أعماله الفنية تأتي بوحدة تناسقية تنسجم تماما بين الواقع المحلي الذي نعيشه وبين الشكل الفني الذي نراه في تجربته الفنية، بحيث أصبحت أعماله تثير في المتلقي جملاً كثيرة من المشاعر والأحاسيس المتنامية تجاه الحقا ثق الحياتية التي نعيشها ضمن الواقع ؛ وقد كان معرضه الكبير «في سبيل القضية» قبيل النكسة تعبيراً عن انطلاقه القوي بمبادئه الفكرية والفنية التي آمن بها نحو تحقيق المعادلة الأخلاقية الصعبة في هذه الظروف، يومها اتهمه أكثر النقاد بأنه رسام لطبقة برجوازية معينة من المجتمع... كان الفنان الراحل «لؤي كيالي» على عكس ما اتهمه النقاد في ذلك الوقت، ولم يدركوا الحقيقة إلا بعد حين، رغم أنه كان ينطلق بفنه من خلفية أخلاقية تتميز بالفهم العميق لمهمة الفنان في المجتمع المضطرب اجتماعيا وسياسياً واقتصاديا، لذلك جاءت أعماله الفنية وخاصة في الفترة الأخيرة من حياته الفنية، تحمل زخماً هائلاً من القضايا الأخلاقية المتنوعة التي تمس ضمير المواطن العربي الأصيل، وتحسّه أو تدفعه إلى النهوض والرقي والسمو في معاملاته الحياتية ضمن بوتقة الأخلاق العربية لبناء حضارته السامية... وعندما نالت فيتنام استقلالها الذاتي عن أمريكا المتغطرسة، استيقظ «لؤي» الإنسان باكراً فجر ذاك اليوم وذهب فورا إلى احد أصدقائه المقربين له وقرع باب بيته وأيقظه باكراً من نومه أيضا، ليمد له يده ويصافحه بقوة وهو يقول «مبروك لقد فازت فيتنام » وعـاد أدراجه دون أن يزيد من كلامه أي شيء آخر... لا شك بأنه موقف أخلاقي له حساسية خاصة يتميز بها فنان مبدع يدرك ما يحمله على كاهله من مهمات سياسية واجتماعية وقومية محلية وعالمية... وعندما باع أعماله في معرضه الذي أقامه في بيروت، جمع المال كله بين يديه وجلس في احد مقاهي دمشق يتأمل العالم من خلفه وهذا المال من أمامه... !!!؟؛ وراحت ذاكرته القوية تنطلق بشرائط سينمائية تروي له المآسي والأحزان الحياتية التي يحياها الإنسان العربي اليائس من كل شيء سوى ذاته الخلاقة والذي يعاني من كل أنواع الحزن والقهر والظلم في هذه الحياة القاسية... يومها نظر إلى كمية المال القابع أمامه، ثم... تركه على طاولة المقهى وانصرف إلى عالمه الخاص وهو يقول لنفسه : «لن يغير هذا المال شيئاً من واقع هذا العالم»...!!؟ وسمعت يوما انه رفض بيع لوحته لمغترب عربي وهو أحوج ما يكون إلى المال، كان لا ينظر إلى اللوحة على أساس قيمتها المادية، بل لم يطلب يوما ثمنا معينا لإحدى لوحاته عل اعتبار أن تحديد ثمن اللوحة يحد من قيمتها الفنية، وكثيرا ما تبرع بثمن لوحاته لأبناء اسر الشهداء... وعندما احضر لوحت «عازف العود» إلى مركز الفنون التشكيلية بحلب، وعرضها علي، وكنت أول من شاهدها بعد رسمها، جلس يستمع بكل انتباه إلى كل نقد موجه إليه حول اللوحة ومن أية جهة كانت من أحدنا، كانت اللوحة تحمل بين طياتها نظرات العازف الحزين الذي أرهقته مشقات الحياة الصعبة واضطراباتها، ورغم زخم الحديث حول لوحته، لم يحاول تبرير أي نقد موجه في لوحته بل ترك الجميع يفهمها كما يريدون... يومها أعجبني فيه صمته وهدوئه، وحبه إلى الإصغاء أكثر من أي شيء آخر، ومن غريب معالم شخصيته الإنسانية انه كثيرا ما تراه في منتهى الصفاء الإنساني ملاكا هادئا كصباح ندي مشمس ؛ وأحيانا تراه ثائرا في وجه الظلم والقهر والبؤس كالصقر الهائج... وعندما سأله الناقد «صلاح الدين محمد» عن أسباب التبسيط في اللون والخط ونظافة اللوحة في أعماله الفنية، أجابه قائلا : «للوصول إلى منتهى الصفاء الإنساني...» لقد تعددت مواقف الفنان الراحل «لؤي كيالي» الإنسانية والأخلاقية في حياته فكان حديث الأوساط الثقافية والفكرية بحيث استطاع أن ينتزع الإعجاب من الجميع ويكون جماهيريا... ويصبح بفنه مفخرة للعرب وصورة واضحة جسدت عصرنا الراهن وهموم الفنان العربي والإنسان المعاصر...
|