الشعر سؤال لا يدّعي اكتماله لاسيما عندما نماهيه بمعادلة الخلق والدهشة أي الشعر الذي يخلق الواقع أم العكس, لكنه خارج تلك المعادلة الملتبسة ثمة امتياز للشعر بأنه ومن خلال تقاناته المجاز مثلا الموارب الفطن بين اللغة والأشياء بطقوس عبوره المرئي واللامرئي بين تخوم المعنى وانفجاره الأكيد.
للشعر وحده- إذن- جسارة البوح ليس في المتاح فحسب بل في الممكن والممكن ليس هو في البلاغة الجاهزة والقواميس المستنفرة, والإرث الجامد, إنه في بلاغة الأشياء اللامرئية بجمالياتها وقبحها ومشاكساتها ومراوغتها للسائد, بلاغة الصوت المتعدد السائر حافياً على بللور الوقت والأزمنة والذاكرة الرائية وخارج سلطة النثر ستخّفف من أحمالنا القاسية لتنجو الروح, وتنحو نحو دهشتنا الفطرية المترعة بالحس الشعري الملون النبرة, الصاعد إلى أعماقنا.
هكذا تقودنا اندلوثيا أحمد تيناوي, الشاعر الباذخ الاختلاف, إلى مجمر أفعاله الشعرية,بدرامية صوته ولغته وحدثه الشعري كذلك,ولعلنا سنقصي عن قصد سؤالاً يقول: لماذا أندلوثيا?! لأننا وببساطة سنذهب لمقترحات الشاعر الجمالية, وفي رؤية الآخر وفي فضاءات أندلوثيا المحتملة: الذاكرة,ومفردات المكان, والمضمرة في ثنايا البوح, انثى القصيدة, والمضمر في تضاعيف النصوص, الشرق.
-إذن - ففي التوهج الذي يدركنا ونحن نجتاز مجرات الذكرى والحنين والحوار والأسئلة والتوق, نحرز مسافة الذكرى والذاكرة لمغامرة أحمد تيناوي بدءاً من حركة الحياة التي تسبق سرد( مشكلته) مع ( الجادة الثانية من حي المهاجرين: امرأة من اسبانيا) هي ماضٍ ولكن?!
ماض يتأسس على مفارقة شعرية:(لاأشعر أنني قديم مثل دمشق/ولا عابر مثل غرناطة).
وهنا يتلامح الحس الزمني بالتاريخ ليقول الشعر ايقاعنا ونحن ندلف إلى مشتهاة هي تماماً كاللغة المناوئة للتاريخ أو المتصالحة معه في تلك البرهة ثمة حوار لا يكشف الآخر بقدر ما يكتشف أنا الشاعر:(وقلت إن دمشق لا تكشف عن رأسها للغرباء (...) وقلت إنني لا أتقن الحب بلا دوائر الجغرافيا) وهذه الأنا المنزاحة للوصف والسرد ترسم ايقاع الحلم المفتقد ليغدو الفقد سؤالاً شعرياً بامتياز ليس في محض حوار بين شرقي يملك هواه وغربية لا تساوم على حريتها إنه حوار ثقافتين مختلفتين - ربما- لكأن (ميموسا - لوثيا) ستغدو لحظة من أندلوثيا مفتوحة تؤرخ بالشعر ولا تواسي وجداً نازفاً تؤرخ رحلة ( أندلسية) مازال الشرق متخيلها الشرق بهزائمه ثمة ما يضمره الشعر من هوية على الأرجح أنه سيتخذ منها جدليته دون أن تشغلنا بطرائق الدفاع عنها!
وخارج ما يتبدى من (وقائع) تدفع إلى بؤرة الشعر يبرع الشاعر في صوغ لحظة فارقة لحظة سجالية يتجاور منها التاريخ وتتجاور في متنها الشعري ثنائيات (أشخاص - أمكنة) (ورأيت كيف يتجاور في مكان واحد جسد ( يوحنا) ورأس ( الحسين) وكيف تنحني رؤوس الداخلين إلى المقام) .
ميموسا- لوثيا, ستصبح ذاكرة جغرافية - شعرية تعيد الشاعر إلى الشعر ليستحضرها دونما إتكاء على متعاليات الأيديولوجيا سنرى الحب وللحرية وجه آخر وجدلية الغياب والحضور التيمة المكتفية لدى شاعر ينثر حياته بكل أوراقها ولحظاتها ومفارقاتها الشعرية في حدثها الشعري: الهزيمة كامتياز رحلة من أقصى الحواس إلى راهن مختزل في (طبيعة صامتة) وهو ما ينفك محاوراً القصائد والأسماء والحضارات ويفجر المعنى ويتطيّر إلى رشاقة القول واقتصاده وأناقة عمارته فلا ( مخطط مسبق) ليقول ما يعرفه أو ما ينتظره من معجزة ستظل كينونة القصيدة بصفاء لغة عارفة متقشفة سوى من المعنى والعبارات المرسلة والسردية التي تتجاوز التفاصيل اليومية أو قصائد الحب إلى محاورة مخزون القارئ وخبراته العاطفية سردية موزعة بمقدار ما يدفع الشاعر ليصرح:(أنا أحمد تيناوي) أبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما لدي ولد وبنت وهامش صغير من الملل هل أكتب لكم قصيدة عن الملل, أم أنتظر- مثلكم تماماً- أن تأتي معجزة).
الشعر يأتي كمعجزة ليدهشنا بحياة نعيشها وحسب ,وربما تصبح ذكرى تشبهنا وربما تصبح شبهتنا الأخيرة.
اندلوثيا: مقام شغف بالحياة التي نبتكر اسماءها, وفعل الشعر ما يضاعف دهشتنا.
الكتاب: أندلوثيا- تأليف:أحمد تيناوي - دار كنعان - دمشق- الطبعة الأولى:2008