وشعرت بعيني تغرورقان بالدموع رأيت رفاة جون يتدفق من جرة رماد الموتى في المنتزه ذلك الصباح.. كانت الدموع تتدفق مني, كنت سعيداً, لأنني حي أكثر من أي وقت مضى, كانت سعادة في ما وراء العزاء والبؤس, وكل قبح وجمال العالم, في آخر الأمر انقطعت الدموع...).
يصعب وسط المتاهات السردية والاستطرادات الحكائية والتأملية, تحديد تيمة أساسية تتيح تأويل رواية (ليلة التنبؤ) لكننا سنتوقف بعد قراءتها عند تيمات أساسية بعينها, تشكل شبكة متواشجة من التفاعلات التي تلامس الاستمرار في الحياة من خلال معنى ما, هشاشة العواطف, الخوف المتربص, السلطة التي تحمي وجودها بخلق (الأعداء) المتعة العابرة لمواجهة القلق والوحدة, الحب خارج المنطق, مسؤولية الفرد عن صيرورته, العنف الملازم لتفاصيل الحياة, الانجذاب إلى اللامرئي.
استطاع الروائي الأميركي بول أوستر في هذه الرواية أن ينسج بنية سردية مشوقة تعتمد الاستطراد والتناص, فتغدو, من ثم, بنية روائية (معادلة) لشبكة العلائق الاجتماعية المعقدة والمأخوذة في شرك يتعدى قدر الفرد وإرادته, ويجعله دوماً تحت وطأة الخوف والتوجس والتنبؤ بما سيسفر عنه المستقبل, وكأن السديم الذي يلف الفرد ويضيع خطواته هو ما يدفعه إلى محاولة فهم مساره وشظايا هويته من خلال سديم الآخرين, وكأن كتابة الرواية هي وسيلة لمواجهة السديم باستحضار أحداث الماضي التي هي (استعادة) للمستقبل.
ينطلق الكاتب سدني أور, بطل الرواية, في كتابته لروايته المزمعة من فكرة وردت في رواية بوليسية بعنوان (الصقر المالطي) للكاتب الأميركي الشهير (داشيل هاميت) تتحدث عن بطل نجا من الموت بأعجوبة, فقرر أن يبدأ حياة جديدة لا علاقة لها بحياته السابقة, وفي النص الذي يكتبه سدني أور, خطوة بخطوة تحت أعيننا, ينطلق من قرار اتخذه نيك بوين بأن يسافر بعيداً عن زوجته ومدينته فجأة بعد أن نجا من الموت إثر سقوط أحد المزاريب بالقرب منه, رحل فجأة ولم يحمل معه سوى مخطوط رواية (ليلة التنبؤ) التي أرسلتها إليه روزا ليتمان حفيدة روائية معروفة كتبت تلك الرواية في العشرينيات من القرن الماضي.
أما (حاضر) النص الذي تدور الأحداث في فلكه, فهو الذي يشكل البنية السردية الحاضنة للرواية, حيث يحكي سدني عن علاقته بزوجته جريس وبصديقهما الكاتب المشهور جون تروس خلال مرحلة النقاهة.
يحاول سدني استئناف الكتابة ليواجه الديون المتراكمة ومساعدة زوجته على نفقات العيش, هو مغرم بزوجته وهي على رغم حبها له, تعيش لحظات توتر يحار سدني في فهمها, وعلاقتهما بالكاتب تروس تمنحهما بعض العون والدفء.
وفي خط مواز, ينقل إلينا سدني خلاصة الرواية التي يكتبها ومغامرة بطله بوين التي تؤول إلى مأزق عندما يجد نفسه حبيساً في غرفة مدرعة تحت الأرض محصنة ضد القنابل الذرية, عندئذ يتوقف مشروع الرواية, التي يكتبها أور, ويستمر السرد المتصل بقصة الكاتب, ويسرد لنا مشروعاً لعمل سيناريو لفيلم عن رواية (آلة الزمن) لويلز, وما آل إليه هذا المشروع في النهاية وكذلك يوقفنا على خبايا علاقاته بزوجته جريس, والكاتب جون تروس وابنه جاكوب.
في (ليلة التنبؤ) يضيف أوستر عناصر شكلية تسعفه على احتواء التشظيات والتفريعات السردية, فنجده يدرج ثلاثة عشر هامشاً لتفصيل حادثة أو للتذكير بوقائع حدثت في تاريخ سابق عن (حاضر) الرواية, ونجد أن الحبكة البوليسية تتشخص, أساساً, من دون توقع من الكاتب المفترض الذي يبدو - طوال النص - متحكماً في خيوط السرد, ما يجعل الرواية مملوءة بالدلالات والتساؤلات المعاصرة جداً والتي من حيث الظاهر, يتقاسمها العديد من الكتاب اليوم, ومن بينها سؤال الكتابة, صعوبتها وسحرها في الوقت ذاته.
الرواية ترجمة: محمد هاشم عبد السلام, صادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت 2008 في 274 صفحة.
بول أوستر
ولد بول أوستر في الثالث من شباط عام 1947 في نيوجرسي بالولايات المتحدة الأميركية, وتخرج من جامعة كولومبيا, وعاش في مدينة نيويورك التي يعشقها جداً, وهو روائي وكاتب ومترجم وشاعر وكاتب مسرح وسيناريو تتميز أعماله بتعقيد شخصياتها وموضوعاتها الفلسفية التي تتناول البحث عن معنى الهوية والذات يعد بول أوستر أحد أهم وأبرز كتاب أميركا المعاصرين في مجال الرواية, وبخاصة الرواية البوليسية, أو رواية التحري على الرغم من وصف الكثير من النقاد لعالم أوستر الروائي, بأنه يتحدى محاولة الإحاطة والتصنيف لثرائه وتعدد أبعاده وفرادة عالمه وزخم العبقرية التي أبدعته.
من أهم رواياته: ثلاثية نيويورك: (مدينة الزجاج, الأشباح, الغرفة الموصدة) نقلها إلى العربية: كامل يوسف حسين, وصدرت عن دار الآداب البيروتية في عام .1993
من أعماله الروائية الشهيرة (قصر القمر), (موسيقا الحظ), (زرقة في الوجه), (لولو فوق الجسر), (دخان), (كتاب الأوهام) وأخيراً روايته التي صدرت منذ أربعة أشهر (حماقات بروكلين).
فاز بجائزة إدجار لأحسن رواية عام ,1986 عن الجزء الأول (مدينة الزجاج) من عمله ثلاثية نيويورك التي خلدت اسمه في عالم الأدب حتى يومنا هذا.