وقد تضافرت مجموعة من الظروف الدولية جعلت(إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين) حسب وعد بلفور أمراً ممكناً خلال النصف الأول من القرن العشرين. لكن منذ الستينيات ولدت في (اسرائيل) وجهة نظر تحاول إعادة النظر بالصهيونية وبطبيعة (اسرائيل) ,وقد عبر أوري أفنيري في وقت مبكر عن وجهة النظر هذه,معتبراً أنه(مع استقلال اسرائيل,ماتت الحركة الصهيونية ميتة طبيعية,وهي تحيا حياة وهمية).
والملاحظ أن التعبير عن القلق بخصوص واقع المشروع الصهيوني ومستقبله لم يعد أمراً عارضاً أو متوارياً,بل أصبح من الموضوعات المألوفة في وسائل الإعلام الصهيونية وفي الدراسات الصادرة عن مراكز بحثية وجهات رسمية.
بل ويذهب بعض المحللين والساسة الاسرائيليين والمناصرين لإسرائيل في الوقت الراهن إلى ما هو أبعد من مجرد طرح المخاوف والتساؤلات,حيث يتحدثون ليس عن أزمة جزئية أو عارضة في هذا الميدان أو ذاك وإنما عن فشل المشروع الصهيوني برمته.
ففي مقال في مجلة(اتلانتيك) التي تصدر على الانترنت,كتب بنيامين شوارز مشككاً فيه بقيام دولتين وشكك أيضاً في أن تحتفل(اسرائيل) بعامها المئة.وهو قد عزا ذلك إلى الزيادة السكانية بين الفلسطينيين وتمسكهم بحقوقهم واستمرار»اسرائيل)على رفض هذه الحقوق.
وهناك الكثير ممن يتفق مع الكاتب في صعوبة تحقيق فكرة الدولتين ويميلون إلى فكرة إنشاء دولة ديمقراطية واحدة ذات قوميتين وهو ما ترفضه »اسرائيل)جملة وتفصيلاً.
فهي لا ترضى بديلاً عن دولة خاصة باليهود وذات يهودية,ولأنها تخشى الخطر الديموغرافي الفلسطيني,فإنها لا تألوا جهداً على تفاديه بكل السبل,ولذلك هي تقوم بتوسيع المستوطنات وملئها بالبشر الذين تأتي بهم من أطراف الأرض وتستمر ببناء الجدار العازل إلى غير ذلك من نشاطات أخرى.
وهذا الخطر الذي تخشاه»اسرائيل) ليس هو الخطر الوحيد,بل هناك أخطار أخرى تواجهها.ويأتي على رأس هذه في الوقت الحاضر ما تسمية الخطر الإيراني الذي ترى فيه خطراً حقيقياً يهدد وجودها,ولذلك فهي لا تفتأ تتحرك على جبهات عدة سراً وعلناً في محاولة لدرئه أو التقليل منه أو إزالته.
وفي صحيفة يديعوت أحرونوت كتب المحلل الاسرائيلي سيفر بلوتسكر يقول :»تبلغ الدولة الستين من العمر..ورغم عمرها,فما زالت دولة اسرائيل تفتقد إلى صفات البلوغ الأساسية,فهي ما زالت بدون حدود نهائية يعترف بها وما زالت تنقصها عاصمة يعترف بها العالم,وما زالت تفتقر إلى دستور.والأهم من ذلك أن سكانها ما زالوا يفتقدون الطمأنينة والاستقرار).
وإذا كان سيفر يكتفي بالتعبير عن الحيرة إزاء هذا التناقض,فإن الكاتب الاميركي أندي مارتن يبدو أكثر تشاؤماً بخصوص مستقبل الدولة الصهيونية رغم حرصه على وجود »اسرائيل) وسعيه لإنقاذها مما يعتبره مصيراً لا فكاك منه.
ففي مقال بعنوان »الموت البطيء لدولة اسرائيل ) كتب يقول:إن اسرائيل تموت موتاً بطيئاً,ومن المفارقات أن السبب في احتضار اسرائيل يعود إلى دعم »أصدقائها) بأكثر مما يعود إلى نجاح أعدائها.
ففي الوقت الراهن أصبح »أصدقاء) اسرائيل هم أكبر أعدائها.فما زال مؤيدو اسرائيل يدعون أن اسرائيل »ديمقراطية).والواقع أن اسرائيل ليست ديمقراطية.إنها دولة استبدادية عسكرية تجرى فيها انتخابات دورية,يحشد فيها الناخبون من أجل تأييد النزعة العسكرية وسياسة التدمير الذاتي.
ويفترض أن اسرائيل هي هدف »الإرهاب).ولكن على النقيض من ذلك,فإن السياسات الاسرائيلية تخلق الإرهاب باعتباره رداً طبيعياً على الاحتلال والإخضاع والإبادة الجماعية والإفقار.ويخلص الكاتب من تحليله لسياسات الدولة الصهيونية والدعم الاميركي المطلق لها نتيجة مأساوية,مؤداها إن:»الزمن ليس في صالح اسرائيل,فالاسرائيليون ومؤيدوا اسرائيل يعتقدون أن تطوير أسلحة جديدة وأساليب جديدة للقمع يتيح لهم بشكل أو بأخر أن يصمدوا في مواجهة مسار التاريخ المحتوم,ولكنهم لن يصمدوا,وليس بوسعهم أن يصمدوا).
إذا كان من الصحيح أن قيام»اسرائيل) كان تجسيداً للمشروع الصهيوني,فإنه من الصحيح أيضاً أن هذا التجسيد كان أقل من الطموح إلى حد كبير,فعلى رغم الإنجاز الهام للصهيونية بإقامة »اسرائيل) إلا أن الصهيونية فشلت في تحقيق حشد اليهود فيها,كما فشلت في أن تكون»اسرائيل) المكان الأكثر راحة وأمناً وسعادة لليهود.
إن الأسطورة الصهيونية التي استطاعت في النصف الأول من القرن العشرين أن تجسد نفسها في دولة قد أفرزت العدوانية والعنصرية من أجل استكمال هذا المشروع الذي أخذ يصطدم بمجموعة من العوائق الموضوعية التي وضعت الايديولوجيا الصهيونية في موقع الشك,وأبرز هذه العوامل:
أولاً:تراجع قدرة»اسرائيل) على التوسع واحتلال الأرض وطرد السكان,وكانت تجربة الاحتلال الاسرائيلي لأراضي 1967 المثال الحي على ذلك.
فقد فشل الاحتلال الاسرائيلي في تفريغ الأراضي المحتلة من السكان,ولم تتكرر سابقة 1948 على رغم المحاولات الاسرائيلية لطرد السكان.
ثانياً:كما فشل المشروع الاستيطاني في الأراضي المحتلة بالمعنى الفعلي رغم كل الإجراءات الاسرائيلية والاغراءات التي قدمت للمستوطنين من أجل السكن في الأراضي المحتلة.فعلى مدى الأربعين سنة الماضية,ورغم حملات الاستيطان المكثفة,إلا أن الإنجاز الاستيطاني كان متواضعاً بحيث يشكل المستوطنون نسبة ضئيلة بالنسبة للسكان الفلسطينيين-باستثناء القدس الشرقية-فعددهم في أحسن الأحوال لا يتجاوز200 ألف مستوطن بين نحو مليوني فلسطيني.
وأخذوا بالتراجع في ظل انتفاضة الأقصى الفلسطينية.
ثالثاً:اليهودي الساعي إلى الهجرة من أي بلد,ليست»اسرائيل) أولوياته,إنما الولايات المتحدة,فإسرائيل لم تعد تشكل حالة استقطاب للمهاجرين اليهود.
وإن اسرائيل ليست البلد الأكثر راحة لليهود,وهم خارج »اسرئيل) أكثر راحة وعددهم أكبر من عدد سكان »اسرائيل).
رابعاً:العامل الرئيسي الذي يشكل قلقاً لإسرائيل,هو تراجع عدد اليهود في العالم,ولأن الدين اليهودي دين غير تبشيري,فإن الأديان الأخرى تكتسب منه واللامتدينون يكسبون منه وهو الخاسر الوحيد.
فقد تراجع عدد اليهود في العالم من 17 مليوناً في الستينيات حسب التقديرات إلى 13 مليوناً في العام الحالي.
قامت الصهيونية ارتباطاً بحل »المشكلة اليهودية) لتخليص اليهود وانقاذهم من معاناتهم,والآن من المضحك الاستماع إلى داعية صهيوني يتحدث عن معاناة اليهود.فأوضاعهم في كثير من البلدان أفضل من أوضاعهم في »اسرائيل) ذاتها.
لقد جلبت الصهيونية الكوارث إلى المنطقة من خلال العدوانية والعنصرية ويجسد ايهود اولمرت الطلقة الأخيرة في كيان لا يريد أن يعترف بمأزقه سوى بمزيد من الدم.
هذا الدم الفلسطيني,الذي سيعطي الدرس للاسرائيلين بالتأكيد على أن مشروعهم وصل إلى حده الأقصى,وأن عليهم أن يجدوا مشروعية أخرى,لا تشكل الصهيونية أساساً لها.