بوعي الانتماء لجيله فقط وإنما يكتب متأثراً بشعور أهل بلاده الأدبي إنه حس الشاعر السرمدي والزمني، ما يجعله يدرك مكانه في الزمن، أي كونه معاصراً».
إن مقولة (إيليوت) هذه تدفعنا للتساؤل: هل الشعر هو عملية خلق لا صلة لها بالتراث: بل هل يلغي التجديد في الشعر الموروث ومحاكاته والتأثر به؟.
نعود إلى التراث بأعماله الفنية والأدبية فنجد أن قضية محاكاته قد طرحت في أوروبا مع بدايات عصر التنوير لكن دون أن تأخذ هذه القضية دورها الفعال وذلك بسبب ظهور (الحركة الرومنطيقية) التي اعتبرت أن إبداع الكاتب هو انقطاعه عن التراث ما يحقق شخصيته كفرد مستقل ليس أسيراً للتراث وعاداته.
لم تكن هذه الحركة لتأخذ الكثير من الوقت الذي حاولت خلاله القيام بثورة على التراث ،ذلك أن العودة للتراث سرعان ما أخذت تتجدد مع انطلاقة الشعر الحديث (الكلاسيكية) التي واجهت (الرومنطقية) بواسطة كل من الشاعرين الإنكليزيين (تي. إي.هيوم) و (تي. إس .إيليوت) وهما من عبر عنها في حياة الغرب الأدبية وكانا من أكبر دعاتها خلال القرن العشرين.
لقد كتب الناقد والشاعر (ت. إي. هيوم) عام 1913 مقالة مهمة جداً اعتبرت أول دراسة أدبية تفسر التحول من مذهب أدبي لآخر وتقوم على مبادئ للنقد الأدبي تختلف عما قامت عليه (الرومنطقية) هذه المبادئ -أفادت في تأكيد الشاعر (ت. إس إيليوت) على ارتباط الشعر بالتراث،حيث دعا إلى نفي مبدأ الفردية والتعبير عن العواطف الفردية في الشعر لتكون القصيدة مستقلة عن مبدعها.
من هنا فإن استقلالية القصيدة عن الشاعر تعني ارتباطها بالتراث الشعري، ما سماه (هيوم) (الكلاسيكية) التي طور (إيليوت) مبادئها في مقالته الشهيرة التي كتبها عام 1919 وهي (التراث والموهبة الفردية).
قدم لنا من خلال الاستنتاجات التي أكد عليها مبدأه في النقد وهو ما من شاعر أو فنان في أي فن من الفنون يصل إلى معناه الكامل وحده، ذلك أن إدراكه لأهمية علاقته مع الشعراء والفنانين الراحلين يجعله مدركاً لمعناه وأهميته وبشكل يتزامن فيه كل عمل إبداعي جديد له مع الأعمال التي سبقته والتي تفرض مسؤوليتها عليه كمبدع مستقل بوعيه وإبداعاته.
من هنا كانت حداثة الأدب والفن في الغرب وبكل ما قدمته من فكر ونقد وإبداع يؤكد على ضرورة العودة لإقامة علاقة إيجابية بين الحاضر والماضي وبشكل أيده الشعراء والنقاد والمفكرون وبمختلف مذاهبهم واتجاهاتهم فكان لهم الفضل في الإسهام بوضع أسس حركة الحداثة.
لم تكن العودة إلى التراث تعني محاكاته بشكل سلبي ينقل تجارب الآخرين وإبداعاتهم وإنما كانت تهدف إلى محاكاة الأعمال الأدبية بطريقة إيجابية تغذي الإبداع وتقدم كل ما هو أصيل وحضاري وجديد وبما لا يجعل الموروث مجرد تراث شعري وأدبي فقط وإنما يصبح عبارة عن كل إنجازات التاريخ وبمختلف وجوهه الفكرية والفنية التي تجعل الحاضر لا يلغي أهمية الماضي.
أخيراً وبسبب تعدد الآراء (الرافضة والمؤيدة) لعلاقة الشاعر بتراثه وأيضاً بسبب عدم وضوح صورة هذه العلاقة في أذهان الكثيرين من منظري الحداثة الشعرية العربية.
بقيت هذه العلاقة تعاني من انعدام وضعف الفكر الفلسفي الموجه، ذلك أن نقدنا الأدبي المعاصر ما زال حتى اليوم يفتقد إلى وضع أسس نظرية صحيحة لمفهوم الحداثة في الأدب، وما زال لا يستطيع ترسيخ مبادئ فكرية تحدد جدوى وسلامة العلاقة بين الشاعر والأديب والتراث الإنساني وبشكل يجدد التراث لا يلغيه، ينفصل عنه شكلياً ليبقى متصلاً بتاريخ لا يمكن التنكر له أو التبرؤ من جماليات إبداعاته وتجاربه التي قدمت للحداثة من أسس ومقومات لولاها لبقي مبدعونا نكرة على هامش الإبداع.