تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الحدث العربي.. مأزق الحصار بين الذكرى والذاكرة

شؤون سياسية
الخميس 19-2-2009م
بقلم د. أحمد الحاج علي

تبقى علاقة الأمة بأحداثها المؤثرة محكومة بحدود (قانون الاستدلال) الذي يشكل عادة مؤشراً حيوياً يحيط بقيمة الحدث من جهة ويقترب من تكوين معادل ذاتي وموضوعي عن وعي الأمة للحدث المؤثر نفسه،

وقانون الاستدلال هذا يتفرد بكونه حالة من المواكبة وليس مجرد التقاط حيثيات الحدث أو إطلاق الأحكام المؤقتة والمرحلية عليه إنه يقع على أبعاد أوسع من ذلك وأعمق من ذلك بكثير، إن قانون الاستدلال يواكب مرحلة الإرهاصات وزمن المقدمات ثم يجري الرصد اللازم للوقائع البشرية والمادية والسياسية كما هي في حركتها وميدانها وتفاعلاتها وفي مرحلة مهمة يستجمع قانون الاستدلال كل المظاهر والآثار الناجمة عن الحدث ،وبسببه في محاولة لتوطيد منطق موضوعي تاريخي للحدث واستخلاص مجموعة العوامل والدروس والعبر التي أطلقها الحدث المؤثر نفسه هذا هو الحال العام عند كل شعوب الدنيا وأممها وفي كل مراحل التاريخ ومساراته ولعل من ذلك اندفعت فكرة (الذاكرة) عند الأمم التي من مهامها أن تواجه النسيان بالاحتفاظ وتردع التزييف بالحقائق وترد عن منطق الحدث غواء التجارة السياسية والتجار السياسيين .‏

والغريب في الأمر الذي يصل إلى حد المفارقة هو أن الأمة العربية ما زالت خزاناً للأحداث الكبرى وعلى مدى ذلك نادراً ما حدث الانقطاع حتى لكأن التاريخ العربي هو قصة حدث عات عاصف مفاجئ وفعل عربي ينوس بتأرجح متقلب بين الصمود والهمود و بين الصحوة والكبوة و بين الاعتبار والاندثار ولم يغادر التزوير الحدث العربي المعاصر.‏

هذه سلوكية معروفة يطلقها المعتدون المحتلون من الخارج وتعطى فيها للجوقات الخادمة والتابعة مهمة الترويج والتسويق من الداخل مع تعديل مهم في هذا الاتجاه هو أن جوقات الترويج والتسويق صارت الآن مؤسسات سياسية حاكمة وأنظمة اجتماعية وأحزاباً ونخباً ثقافية واقتصادية وامتلكت هذه الجوقات المال اللازم الذي لا يخضع لتقلبات الأزمة العالمية والذي لا ينفد ولا تجري عليه مراقبة أو محاسبة ثم وضعت أسلحة جديدة تحت تصرف هذه الجوقات أخطرها لقمة عيش المعذبين في الأرض العربية وسلاح إعلامي يتناثر ويتكاثر ليمتلك الفضاء ويحتجز الشارع الاجتماعي ويتسلل كالثعابين السامة إلى الأجيال ويفرض معاييره الاستهلاكية على الإنسان المقيد أو المحروم أو الحائر، لعلي من خلال مسارب هذه المقدمة الطويلة أن أذكر بأن ما حدث في غزة العربية سياسياً ومصيرياً و جغرافياً وموضوعياً هو صيغة متبلورة وصارخة لمفهوم الحدث الكبير المؤثر وكان الأًصل أن يتحرك قانون الاستدلال من خلال الحقائق والوعي السياسي وعبر الضرورات الواقعية والتاريخية ليحيط بغزة يستخرج منها المقاصد والغايات ويرصد فيها ما الذي يجري ومن القوى التي تحتل الميدان سياسياً ولوجستياً وماذا عن الدوائر العالمية التي لم تتوقف وهي تتكاثر بتسارع غير مسبوق حول الحدث في غزة، كان المشهد واضحاً تماماً وهو أجزاء ثلاثة، جزء هو الحدث نفسه من خلال الحرب والموت والدمار والصمود وجزء ثان هو في هذا الفهم الغربي وهو يتسارع لكي لا تحدث أي مفاجأة غير سارة لدى الكيان الإسرائيلي وجزء ثالث هو لوحة عربية مترامية الأطراف واضحة هنا باهتة هناك يتزامل فيها الحقيقي والمزعوم وتتداخل فيها العواطف الصادقة مع موجات الادعاء والخطوط المحفورة لنقل دموع التماسيح من المآقي الزائفة إلى وعي الإنسان البسيط وذاكرته وعاطفته هذه الأجزاء الثلاثة كانت كافية ليتعامل الغرب وفي قائمته الكيان الإسرائيلي بجدية وحقد مع الحدث في غزة بينما كان التعامل العربي يتوزع على المصلحة السياسية بين مؤيد ومعارض ومصدق ومكذب ومتفاعل ومهرج من هذه الفاصلة المرة كانت تتخلق بوادر المأزق العربي الجديد عالم يعرف ماذا يجري وسياسات عربية تفترق إلى درجة التناقض والتلاعن حول هذا الذي يجري في غزة ولقد ساعدت فكرة الموقف العاطفي العام في بناء الصورة الفكرية والسياسية والنفسية في مرحلة ما بعد صمت الرصاص والغريب أن الرصاص الغادر الإسرائيلي لم يصمت بعد، كان صامتاً أبكم وحاقداً أرعن حينما كان الصمود في أوجه ولهيبه، الآن يأخذ الغدر الصهيوني دوره ليتحول الرصاص الغادر إلى حالة من القنص والاقتناص بصورة انتقائية مبرمجة حيث يستمر الموت في غزة.‏

ويستمر الصمت العربي بدءاً من الضفة الغربية إلى كل العواصم العربية المحيطة أو التي ما زالت تأخذ دورها على خريطة الوجود العربي المترهل نفسه والمسألة ليست موصوفة أو محددة بمناسيب رد الفعل والتجاوب الظاهر مع هذا الحدث الكبير، هناك مقومتان مهمتان جرت عملية منظمة لاستبعادهما من التداول العملي والسياسي في الواقع العربي لقد سحبت مقومة الفعل العربي من المسؤولية والتقويم وحتى التوصيف.‏

لم يتحدث العرب بمواكبهم المبهرة (وبلغائهم وفصائحهم وإعلامييهم) لم يتحدث هؤلاء العرب عن فعل عربي والفعل هو واجب عضوي وهو حالة دفاع عن الوجود والمصير وهو انتماء للحق والذات والفعل يتضمن رد الفعل لكنه يتحرك نحو آفاق وآماد وسلوكيات أين منها هذا التبجح وهذا التهريج وسحبت من التداول العربي حتى هذه اللحظة المقومة الأهم وهي التي تكون المعادل الشرعي والفقهي والإنساني لأي حدث كبير في تاريخ البشر إن الأمر هنا يتصل بمنطق التواصل مع الحدث وليس مجرد الاتصال به في لحظة التزامن أو التنفيد بالموقف عبر أيام الجمر والعذاب التي استغرقها الحدث الكبير في غزة عند الشعوب الحية والأمم المتطلعة إلى وجودها ومستقبلها يكون للحدث بدايات ثلاث على ذات المستوى من الحضور والألق والحرارة لهذا الحدث بداية أولى في زمن التهيؤ للحدث وهذا ما يعصم من المفاجأة والزيغ وهدر الطاقة وبداية ثانية مع احتدام المعركة وفي عمقها وتفاصيلها منعاً من أن يكون الحدث في بقعة محدودة ويتحول الكم العربي إلى متفرجين على اختلاف أمزجتهم وبداية ثالثة وهي الأهم والأخطر أن يكون الحدث ذاكرة وليس مجرد ذكرى منعاً لمتعة الوقوف على الأطلال.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية