تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


البطاطس عروس الانديز

استراحة
السبت 2-8-2014
عرفت سهول الأنديز في البيرو وتشيلي زراعة البطاطس لأكثر من ثمانية آلاف سنة، ووجد علماء الآثار في الأطلال التي تشهد على تاريخ تلك المنطقة بقايا بطاطس تعود لأكثر من خمسمائة سنة قبل الميلاد. كما عرف هنود حضارة الأنكا التي قامت بين العام 1200م و1572م هذه الثمرة، وذكروها في صلاتهم كقوتهم اليومي، وأدرجوها مع أكفان موتاهم.

خزَّنوها لأكلها في الحروب والمجاعات.. جفَّفوها وطبخوها بصلصة الطماطم وحملوها معهم رفيقاً أميناً في رحلاتهم الطويلة، وعندما كان محصولها يصاب بالفشل لسببٍ أو لآخر، كانت تقوم الدنيا ولا تقعد، فيساق البعض من سيئي الحظ لتقطع أنوفهم، اعتقاداً من البقية أن هذه الوسيلة الوحيدة لاسترضاء البطاطس.‏

وعندما وطأ الإسبان أرض البيرو غازين وباحثين عن ذهب الأنكا، كانت البطاطس أمامهم تنتظر مستكشفاً بعيد النظر ليرى ما قد تقدِّمه هذه الثمرة الغنية للعالم أجمع، وطال انتظارها أكثر من قرنين من الزمان كي يكتشف العالم الغربي أهميتها، وقرنين آخرين كي يدرك العلم على نطاق واسع غناها.‏

فالبطاطس تعيش في منطقة لا تعرف الاعتدال. الأرض التي لا يحول بينها وبين أشعة الشمس حائل في النهار، تقف عزلاء مستكينة أمام صقيع الليل، وهذا التفاوت الهائل في درجات الحرارة التي تتعرَّض لها التربة ذاتها خلال اليوم الواحد لا يقف عقبة فقط أمام النمو الطبيعي للنباتات، بل يعني أيضاً تعرضها لهذه التقلبات الجوية، سواء أكانت جفافاً أم صقيعاً، على مدار السنة. وتحت أحوال كهذه، ليس للنباتات الحسّاسة كالقمح أو الذرة أو الشعير مكان.‏

البطاطس، عروس الأنديز، تزهو بمواءمتها لهذه الأرض، إذ يستطيع بعض فصائل البطاطس العيش في تربة تعلو عن مستوى سطح البحر أكثر من خمسة عشر ألف قدم، وقشرتها السميكة تحميها على الدوام، وخاصة خلال تعرض المنطقة لنوبة صقيع تجمّد كل ما تقابله، أو نوبة جفاف تمتص الحياة، وتقاوم لأكثر من سبعة شهور. فالبطاطس تنمو في أقسى وأكثر الترب فقراً، وفي أي سطح يمكنها التواجد فيه، ولذلك هي -بأنواعها التي تتجاوز 230 نوعاً- هبة لا تقدَّر بثمن على سهول الأنديز، وهذه الأنواع هي التي سمحت لسكان السهول في الماضي تخير وزراعة أكثرها ملاءمة للظروف المناخية،‏

لم تكن الصعوبات أمام المزارع وعائلته تنتهي بالحصول على الطعام، فالوقود في تلك الأرض كان أندر حتى من مساحاتها المزروعة، والصقيع ينهي ما تبقى فيجمد كل ما تحتويه مخازن القرية. والبطاطس التي تحمل أكثر من %80 من وزنها ماء كانت معرَّضة لمصير مشابه لباقي الأطعمة، وربما كانت أولها تعرضاً له، إلا أن الأنكا وجدوا حلاً مبتكراً حوّلوا فيه حساسية البطاطس من الصقيع لصالحهم، فكانوا يقتسمون بعضاً من محاصيل البطاطس، والباقي يتركونه معرضاً لصقيع الأرض القارس في عتمة الليل، حتى تتجمد مياه الثمرة، فإن أتى النهار بحرارته، يذوب الجليد عن البطاطس، ويتكفل الأهالي بطرقهم التقليدية بعصر الثمرة حتى لا يبقى فيها إلا أقل القليل من الماء، وبالتالي تصبح عصية على هجوم الصقيع، ويجمعونها في سلال يخبؤونها في غرف مقفلة بإحكام. هذه البطاطس التي عرفها أهل الأنديز باسم «تشونو» chuno كانت لا تستغرق سوى دقائق لتنضج وتصبح جاهزة للأكل بعد وضعها في الماء المغلي.‏

من جهة أخرى تقدم البطاطس على الطاولة قيمة غذائية متفوقة على غيرها من الخضراوات. إذ يقول العلم اليوم إن البطاطس توفر كل العناصر المغذية التي يحتاجها الجسم، عدا الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، مما يعني أن نظاماً غذائياً معتمداً على البطاطس والحليب يمكن أن يمد الجسم بكل ما يحتاجه. ويوفر الفدّان الواحد المزروع بالبطاطس لعشرة أشخاص طاقتهم السنوية وحاجتهم من البروتين، وهو شيء لا يمكن أن نقوله عن الذرة، أو الأرز، أو فول الصويا، أو حتى القمح.‏

ضحية التعصب الطبقي أولا‏

بعد أكثر من ثلاثين سنة من اكتشافهم للبطاطس في الأنديز، حمل أحد الغازين الإسبان هذه الثمرة الغريبة معه إلى دياره.. وليس لنا أن نفترض أن هذا البحار كان مدركاً لما يقدِّمه لبلاده عبر هذه الثمرة الصغيرة التي حفظها في جيب سترته الداخلية. بل يرجِّح الباحثون أنه لم يحملها إلا كتحفة أو تذكار لغزوته، ومثالاً على طرافة وغرابة الأرض التي تنتمي إليها، وبالتالي، لم يكن ليدري أنه بهذه الرحلة، كان أول من عرَّف إسبانيا، والعالم من بعدها، على البطاطس.‏

فبعد سنوات ثلاث من هذه الواقعة بدأت البطاطس «مستقبلها المهني» في أوروبا، حيث استخدمها الأطباء لإطعام المرضى الفقراء في إحدى مستشفيات إشبيلية بإسبانيا، ولو كان الإسبان يعلمون ما يخبئه المستقبل، لأدركوا أن هذا التذكار التافه سيلعب ذات يوم الدور نفسه الذي لعبه في أرضه الأصلية، وإن اختلفت تضاريس مسيرته بعض الشيء.‏

فالبطاطس ستقدم، رغماً عن أنف أوروبا، ملاذاً من المجاعات، وستنمو في كل مكان. في بساتين الملوك، وحظائر الصيد، ومزارع الفلاحين، وحدائق العمال، في أية تربة.. غنية كانت أم فقيرة. وستصبح سلاحاً في يد الفلاح الطامح للحرية والاستقلال المادي عن الإقطاعي المسيطر، وأماناً له ولعائلته في الوقت نفسه من الجوع القارض. ولن تكون محصورة على الفلاح المتمرس، فلأنها لا تحتاج إلا إلى عناية اليد البشرية والمجراف، فستكون أداة شعبية أخرى، يجتمع الفلاح مع العامل مع الموظف على زراعتها. ومع الحليب أو أي من منتجاته لتوفير الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، ستقدم البطاطس نظاماً غذائياً كاملاً كانت جموع الفقراء تفتقده في كل بلد أوروبي والعالم. كما أن البطاطس تقي أيضاً من الإصابة بالاسقربوط، المرض الذي كان ملايين الأوروبيين يتعرضون له في ظل غياب قدرتهم على الحصول على الفواكه الغالية التي تؤدي الدور ذاته.‏

إلا أن كل هذه المميزات، ويا للمفارقة، كانت غائبة عن أعين الأوروبيين في تلك الأوقات، إذ لم ير هؤلاء سوى أن البطاطس طعام يستطيع الفقراء الحصول عليه بسهولة، وأوروبا بطبقاتها المختلفة كانت ملكية أكثر من الملك، حتى أن الفقراء ترفعوا عن أكلها لأنهم كانوا يتفادون بيأس ملهوف كل ما من شأنه الإشارة إلى طبقتهم الاجتماعية.‏

الحقيقة، أن تضييع الأسبان لفرصة استثمار البطاطس لصالحهم لم يكن غباءً مجرداً، بل كان نتيجةً طبيعية للتعصب الطبقي الذي كان سمة تلك العصور. وبناءً عليه، إن كان العالم الجديد ببدائيته وبعده عن التحضر قد اعتمد على البطاطس غذاءً له بدلاً من الخبز، فهذا يعني أن الثمرة رديئة لا يليق بإسبانيا حضارياً أن تقترب منها ولا أن تعتمد عليها كقوت يومها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية