تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ضبــط ذاكــــرة بشـــــرية..وفـق شـريحة «نوكيـا» باســم ســـليمان.. !

ثقافة
السبت 2-8-2014
لميس علي

(في البدء كانت الخطيئة... فلنسلم جدلاً، و نقرّ بأن الخطيئة هي مبدأ الكون، ما الخطيئة التي يجب أن نرتكبها ليعمر وجودنا!؟)

(ستسألون ما الخطيئة!؟ الخطيئة هي الإحساس بالنقصان... فالكمال هو التأقلم التام مع المكان والزمان الذي تعيش فيه... أليستْ الجنة شكلاً من أشكال الوجود...‏

فكل واحد منكم له دوره, فليلعبه بإتقان، وساعتها سينال الجنة. لا تسألوا، ولا تبحثوا عن أجوبة, فهي كالرمال، اتركوها للريح، وكونوا نخلاً أو واحات أو جِمالاً، لا يهم، لكن لا تلتفتوا للأسئلة.)‏

على لسان شخصية بطله «باسم» يسوق الكاتب والشاعر باسم سليمان حقل سرده المفخخ بكثير تساؤلاته.‏

ثمة دقة ومهارة في فتح شبكة سرد روائي وتلغيمها بعديد حيله الإبداعية.. لإلقاء مزيدٍ من الدهشة بين يدي قارئه..‏

فهل أصاب بإدهاشنا عندما فاجأنا بالتصريح عن اسم بطل روايته الأولى (نوكيا).. مطلقاً عليه اسم «باسم سليمان».. هكذا بكل وضوح.. ودون أي مواربة يجعل من الناطق بلسان حال شخصيته الرئيسية هو الروائي نفسه.. يوحّد بين الاثنين.. بين بطله وذاته الروائية.‏

لعبة فنية.. هل رفعت من عيار الدهشة أم أنها أبطلت من رغبة التلصص التي تتملّك القارئ لدى بحثه ما بين صفحات الرواية عن الشخصية الحقيقية للروائي.. لا تلك المخبّأة وراء أقنعة شخصياته الورقية.. ؟‏

بمعنى.. أن المباشرة، لربما أسقطت أو (فرملت) حالة التتبّع لأثر الروائي الذي يخلّفه في شخصياته..‏

هل أُعجب ببطله.. فتماهى معه «اسمياً».. أم هل ظهّر فعلته عبر جعله السارد لمعظم أركان العمل.. إذ تُروى معظم تفاصيل وأحداث الرواية من وجهة نظر بطله.. المراقب.. الراصد.. المقتنص للفرص.. ملقن الدروس.. طارح الأسئلة.. ومكتشف الإجابات..‏

باختصار.. يبلور سليمان من خلال (سليمان- النسخة الورقية) نموذجاً بشرياً معبأً بذاكرة الـ(نوكيا).. ذاكرة آلية.. إلكترونية.. تعمل بالتلقين وإعطاء الأوامر.. بحذف ما تريد وإبقاء ما ترغب به..‏

هو إذاً نموذج هجين.. خليط من شكل آدمي وذاكرة نوكيا.. يقول: « كم هي سهلة هذه الحياة الافتراضية، وكم تقدم لك من خيارات, ببساطة تستبدلُ رقم موبايلٍ بآخر، فتذهب معه كل الأحاديث والمشاعر السابقة حتى دون جهد في النسيان»..‏

لدى باسم (الشخصية) ليس من السهل فقط استبدال رقم موبايل بآخر، بل إن استبدال حياة بأخرى يبدو أكثر من ممكن وسهل.. حتى لو كان الثمن التضحية بصديق.‏

ما هذه الحالة التي تُعانيها شخصية البطل.. وما هي درجة التشيؤ وانعدام الذات التي كان وصل إليها.. ليُعيد تشكيل ذاته وحياته اعتماداً على خطف حياة صديقيه (داني ومحمود).. يعترف لنفسه: «داني يحلم بالهجرة.. أما أنا فلا أعرف هجرةً، ولا تجذّراً كمحمود».‏

على هذا النحو.. يهندس باسم (الورقي) الكمال الذي فصّله على مقاسٍ يناسب الزمان والمكان المحيطين به.. يصنع (كماله) وفق ما يشتهي باختياره اغتيالَ ذاكرةٍ تشاركها يوماً وصديقيه.. يعمّر وجوده على أنقاض ما كان يوماً (صداقة)..‏

يسافر داني فيقتنص عمله لدى (سركيس).. يموت محمود فلا يوفّر لا حبيبته (عليا) ولا حتى حلم هذا الأخير في الكتابة.. وكما لو أن (باسم) الذي أصبح في نهاية المطاف كاتباً، اجتث أحلام صديقيه، لاسيما محمود، من جذورها، ليعود يزرعها في أرضه.. أرض امتلأت بفقاعات «ذاكراتية» قصيرة الأمد.. سريعة العطب.. يتابع سيل اعترافاته قائلاً: «أرغب ببساطة أن أملك قدرة الحذف، أن أنشئ ذاكرة منتقاة كما أريد».‏

بنموذجه (الورقي) وكأنما يشي سليمان برغبة انتقاد الحياة الافتراضية وما سيرافقها من تبعات تُعَمّم على مختلف مفاصل حياتنا.. حيث المزيد من تشييء الإنسان والانغراس أكثر صوب المؤقت والآني والسريع.. مجاراةً لمفردات عصر التكنولوجيا.‏

هل ينتقد أم أنه يستشعر ويحذّر مما سيؤول إليه الحال.. أم أنها آلت إلى ما يقوم الكاتب بتوصيفه بأسلوبية تقترب من نوع كتابة «تكثيفية»، لعلها جاءت إلى قلمه (الروائي) بالعودة إلى أصل قلمه (الشعري).. فسليمان لا يغوص بتفاصيل وسرديات لا طائل منها.. إنما يعمل على خدمة فكرته بطريقة ما يمكن تسميته بـ(الرواية الومضة).. المكثفة بفكرتها.. المضغوطة بلغتها.. المختزلة بإحداثيات أبطالها.‏

في (نوكيا).. لا تفرعات ولا تشعبات عن الموضوعة الأساسية التي يظهّرها سليمان.. لا انحراف عن مسار ال(ميني نوفل- mini novel) أو الـ(النوفيلا- novella).. التي تبدو خط سير عام يطبع الرواية عالمياً.‏

أوروبياً.. على سبيل المثال، تذكّر الـ(النوفيلا) برواية (الخنزرة) لماري داريوسيك التي تلتقط لحظة تحوّل، أو لحظة نكوص من طبيعة آدمية إلى حالة حيوانية.. هل تبتعد روايات إيميلي نوتومب عن هذه الطرائقية في الكتابة الروائية وهي المعروفة بنتاجاتها السنوية.. وغيرهما الكثير ممن يقبض على مشاهدة حياتية يعمل على تعويمها روائياً وفق نموذج (الومضة) أو (الميني).‏

تماماً.. هذا ما فعله باسم سليمان «بنسخته الواقعية».. التقط فكرته وعمل على تعويمها وفق لغة مقتصدة تبتعد عن الحشو والزخرفات.. لكنها لا تمنع من الكشف عن فيض معلومات وثقافة تتناثر بنعومة طوال العمل.. خدمةً للنص.. لارغبةً باستعراض فارغ.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية