- إذا كنت تريد أن تصف شخصيتي في كتاباتك الأدبية أنصحك بأن تكتب: إن صديقي أبا الجود هو من القوم الذين كلما أفلسوا طربوا!
قلت: أرجو ألا تعتبر المقطوعات القليلة التي تعلمت عزفها على العود, كرقصة ستي, وهزي يا نواعم, ومرمر زماني, إضافة إلى بشرف سماعي طاتيوس, قد جعلت منك عازفاً يتحدث عن الطرب بالفم الملآن, ويضرب على ذلك الأمثال!
قال: عفواً, أنا لا أقصد بالطرب العزف والغناء, ولكنني أقصد التسطيح واللامبالاة. وأنت تعرف أن الناس يعبرون عن هذه الحالة بتعبير عامي آخر إذ يصفون الشخص اللامبالي بأنه كمن أضاع جحشة خاله, إن عثر عليها يغني وإن فقدها نهائياً يغني! والغناء هنا يأتي بمعنى التعالي على المصائب والبلاوي بالتنكيت عليها, وتحويلها إلى مادة مضحكة! وأنا في الحقيقة لا أتبع هذا الأسلوب من أجل التهرب من مسؤوليات الحياة, ولكنني أفعل ذلك لأن هذه المسؤوليات أكبر مني! فلو كنت آخذ المسائل والمشكلات والتبعات التي أتعرض لها يومياً على محمل الجد فلربما جننت وسحت في الشوارع!
وحقيقة الأمر فإن هذا التفكير العملي الذي انتهجه أبو الجود في حياته قد حوله إلى شخص محبوب وجذاب لا تطيب مجالس السمر والفرفشة بدونه حتى إنه صار يتهرب من الدعوات الكثيرة التي توجه إليه لتناول العشاء مع سهرة لا تتوقف قبل بزوغ الفجر, أو بالأصح صار ينتقي من العروض التي تعرض عليه واحداً, ويتهرب من الباقي.
وفي ذات يوم, التقيت به في فترة ما بين العصر والمغرب, ودعوته إلى أركيلة مع كأس شاي خمير في مقهى الريحاني. وبينما نحن جالسان, نتجاذب أطراف الحديث, وأنا مستمتع بسماع نوادره والمواقف التراجيدية التي يمر بها فتتحول على يديه إلى مادة تضحك الثكلى والفاقد, إذ لاح صديقنا المشترك أبو عبدو السلموني, وهو شخص ذو عقل مضطرب, ينسى في آخر الحديث ما قاله في مطلعه, وكان غاضباً من أبي الجود إلى حد ألقى علينا السلام ثم استدرك قائلاً:
- لولا الحياء لاكتفيت بالسلام على أخي أبي مرداس وحده, فالرجل الذي كان صديقي الذي اسمه أبو الجود لا يستاهل حتى إلقاء السلام عليه!
دهشت وأبو الجود من هذه اللهجة الحادة, وقلت مدارياً الموقف:
- مؤكد أنك تمزح معنا يا أبو العبد, لأن عهدي بك تحب أبا الجود, وأبو الجود يحبك ولا يمكن أن يكون قد قام بتصرف يزعلك.
قال: بل أزعلني أكثر من ثلاثين مرة, وأنا بعد هذا اللقاء, وبعد أن أضع الأمور في نصابها سأكف عن صحبته والله يعوضني عنه بأحسن الناس.
قال أبو الجود: هذا الكلام سليم, لا غبار عليه, شريطة أن تذكر لي الأسباب التي جعلتك تتخذ مثل هذا الموقف.
قال أبو عبدو: الأسباب أنا أعرفها وأنت تعرفها, ومع ذلك سأحكيها قدام أخينا أبي المراديس. يا رجل (هذه لي) ثلاثين مرة ذهبت لزيارته في البيت, وأهله ممسكون بحرف الميم, كلما قرعت الباب وسألتهم عنه يقولون لي: مو هون, ما منعرف أين هو, ما منعرف متى يرجع, ما.. ما.. حتى إنني في إحدى المرات وصلت إلى الباب ورفعت يدي لأطرق الباب, وقبل أن أطرقه جاءني صوت أخته وهي تقول:
- مو هون أبو الجود!
قال أبو الجود بجدية تامة: إذا كان الأمر كما تقول فو الله الحق معك. وبصراحة يا أبو العبد أنا في الآونة الأخيرة أصبحت أتهرب من الناس الذين يدعونني إلى أطايب الطعام, لسبب أنت تقدره حق قدره, وهي أن من يقبل دعوات الناس يجب عليه أن يرد لهم الدعوة بأحسن منها, وأنا كما تعرفني مفلس وجالس على الأرض يا حكم.
قال أبو عبدو: يا أخي أنا أريد أن أزورك لنتسلى ونشرب كاسة شاي, ولا أظنها تخرب الميزانية.
قال أبو الجود: معك حق, ولكن ما رأيك أن تكف عن الذهاب إلي عشوائياً تعال نتفق على موعد, وأنا قبل الموعد بعشر دقائق مستعد أن أنتظرك عند الباب الخارجي بعد أن أرشرش قليلاً من الماء لأجلك. أخي, تعال غداً في مثل هذا الموعد اتفقنا?
قال: اتفقنا.. ولكن.. أريد أن أسألك, أين يقع بيتكم?!