حتى إن واحداً مثل القاضي (عافية) لا يستطيع أن يميز بين المديح والهجاء, بل إنه يرتفع في سخريته أعلى من ذلك, حتى يصل إلى أمير المؤمنين,وإن يكن هو عبد الملك بن مروان.
حتى القضاة فإنهم لم يستثنوا في كتاب ابن الجوزي, فهو ينقل عن ابن الأعرابي قوله: إن أبا دلامة خاصم رجلاً إلى قاض كان يدعى (عافية) فقال:
لقد خاصمتني غواة الرجال وخاصمتهم سنة وافية
فما أدحض الله لي حجة وما خيب الله لي قافية
فمن كنت من جوره خائفاً فلست أخافك يا عافية
فقال له عافية: لأشكونك لأمير المؤمنين. قال: لم تشكوني ? قال: لأنك هجوتني, قال: والله لئن شكوتني ليعزلنك. قال: لم? قال: لأنك لا تعرف الهجو من المديح.(1)
(الأمير آخّر: الجمعة)
وينقل أيضاً عن علي بن هشام أنه قال: كان للحجاج قاض بالبصرة من أهل الشام يقال له: أبو حمير, فحضرت الجمعة- أي صلاة الجمعة- فمضى يريدها, فلقيه رجل من العراق, فقال له: يا أبا حمير, فأين تذهب? قال: إلى الجمعة.
قال: أما بلغك أن الأمير قد أخّر الجمعة اليوم? فانصرف راجعاً إلى بيته.
فلما كان من الغد, قال له الحجاج: أين كنت يا أبا حمير, لم تحضر معنا الجمعة?
قال: لقيني بعض أهل العراق, فأخبرني أن الأمير أخّر الجمعة فانصرفت.
فضحك الحجاج وقال: يا أبا حمير أما علمت أن الجمعة.. لا تؤخّر?(2)
عن قضاة حمص
.. وسأل المأمون رجلاً من أهل حمص عن قضاتهم فقال: يا أمير المؤمنين,إن قاضينا لا يفهم,وإذا فهم وَهِم. قال: ويحك,كيف هذا? قال:قدم عليه رجل فادّعى على آخر أربعة وعشرين درهماً, فأقر له الآخر. قال القاضي: اعطه.
قال: أصلح الله القاضي, إن لي حماراً أكتسب عليه كل يوم أربعة دراهم, أنفق على الحمار درهماً وعلي درهماً وأدفع له درهمين, حتى إذا جمعت ماله غاب عني فأنفقتها وما أعرف وجهاً إلا أن يحبسه القاضي اثني عشر يوماً حتى أجمع له إياها.
فحبس القاضي صاحب الحق حتى جمع ماله فضحك المأمون وعزله(3) .
المغفلون من الكتّاب والحجّاب
في الحقيقة فإن ابن الجوزي لا يميز تماماً بين الحمقى والمغفلين, فهو يخلط بين هاتين الطائفتين من البشر,على الأغلب. ومثال ذلك أنه تحت عنوان يقول: (في ذكر المغفلين من الكتاب والحجّاب) يريد بالكتاب ما يشبه في عصرنا أمناء السر, تحدث عن كاتب وصفه بالحمق, وقد كان يعمل مع والي انطاكية التابع لأمير حلب. فحدث أن مركبين من مراكب البحر الحربية قد غرقا, فكتب ذلك الكاتب إلى أمير حلب يخبره بما حدث قائلاً:
بسم الله الرحمن الرحيم, اعلم أيها الأمير أعزه الله تعالى أن شلندتين أعني مركبين قد صفقا من جانب البحر أي غرقا من شدة أمواجه, فهلك من فيهما أي تلفوا.
قال: فكتب أمير حلب إلى واليه في انطاكية:
بسم الله الرحمن الرحيم. ورد كتابك, أي وصل وفهمناه أي قرأناه. أدّب كاتبك أي اصفعه, واستبدل به, أي أعزله فإنه مائق أي أحمق والسلام أي انقضى الكتاب.(4)
سلاه عن مصيبته.. بأعظم منها!
ومن هذا القبيل ما حدث مع الحجاج ذات يوم, فقد نابت الحجاج مصيبة في صديق له, وعنده رسول من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان, فقال الحجاج: ليت إنساناً يعزيني بأبيات, فقال رسول عبد الملك وهو من الشام: أقول? قال الحجاج: قل فقال:
(وكل خليل سوف يفارق خليله, يموت أو يصاب أو يقع من فوق البيت أو يقع البيت عليه, أو يقع في بئر أو يكون شيء لا نعرفه ) فقال الحجاج:
قد سليتني عن مصيبتي بأعظم منها في أمير المؤمنين, إذ وجه مثلك لي رسولاً.
الحواشي:
1- أخبار الحمقى والمغفلين- ابن الجوزي- ص 95
2- المصدر السابق- ص 96
3- المصدر نفسه- ص 97
4- المصدر نفسه- ص 99