كتاب تراثي سياحي فكري بقلم ويَرَاع معاصرللمؤلف الشيخ عبد القادر بدران وإعداد الأستاذ ضياء الدين فرفور, غني بمادته العلمية, متفرد بموضوعه,
ترجم وأرَّخَ ووصف صروح دمشق العمرانية العلمية الفكرية والثقافية والخيرية, منذ القرن الخامس الهجري, سابقة المدرسة النظامية ببغداد بأكثر من عقد من الزمن, وَصَفَ صروح مدينة خصَّها الله تعالى ببركة نبيِّه صلى الله عليه وسلم, في جملة أحاديث منها: (اللهم بارك لنا في شامنا). الأمر الذي جعل جموعاً من المسلمين هائلة عبر التاريخ تزحف إليها — ولا أَدَلَّ على ذلك من مجيء المقادسة ومن جاورهم أيام غزو الصليبيين لفلسطين إلى دمشق فارّين بدينهم, وسكناهم صالحيتها وأسهامهم في حركتها الفكرية — وجعل الناس ينتقلون إليها التماساً لبركة النبي صلى الله عليه وسلم, وتبارى العلماء في مدحها ووصفها ومدح أهلها ورجالها ومائها وأنهارها وغوطتها, ولو سبرنا المكتبات العامة لوجدنا ما ينوف عن مائة كتاب يتحدث عن دمشق وشؤونها, منها كتاب الشيخ بدران هذا الذي رصد الحركة الفكرية بها, فقد وصف أشهر المساجد, ودور القرآن الكريم, والحديث النبوي الشريف, والدور التي جمعت بينهما بآن معاً, ومدارس الفقه الإسلامي بمذاهبه الأربع, ومدارس الطب والصحة, وخوانق الصوفية, والرُّبُط, والزوايا, والمقابر, والأنهار, والأبواب, ذاكراً كل ما يتعلق بها من اسم مُنْشِئِها وترجمته, وواقفها, وما أوقفه عليها من بساتين, وغلال, ومحلات, وجِراية (رواتب ومصاريف ) على شيوخها وطلاب العلم فيها, مهما عَظُمت أو قلَّتْ, مع ذكر شروط الواقف, وشروط الشيخ الناظر عليها أو المسؤول عنها, وأسماء مدرِّسيها, ومن طلب العلم بها, وربما ذكر ما كان عليه المكان قبل أن يكون مركز إشعاع علمي, وما آل إليه في زمنه رحمه الله تعالى .
يعلو على ذلك وصف دقيق لبناء هذا الصرح الشامخ العمراني, من عدد غرف وطوابق, وكتابات جدارية, وأقواس وغير ذلك.
والملاحظ أن معظم من أنشأ هذه المراكز هم ولاة دمشق ونوابها, من أموالهم الخاصة, لا من خزائن الدولة, ولا من أموال عامة الناس, أو ربما أنشاها عالم مُوْسِر مقتدر على عِلْمٍ مُعَيَّن كالفقه الحنفي مثلاً, فيشترط أن يكون شيخها أعلم فقهاء الحنفية, وأن تكون الجراية مقدار كذا وكذا للشيخ المسؤول عنها, وكذا وكذا لبقية المدرِّسين, وكذا وكذا للطلاب, وربما كان الوقف على هذه المنشأة العلمية أو الخيرية نصف بساتين بلدة معينة, كقرية حزرما التي أُوقف ثلث أراضيها على دار الحديث الأشرفية ( بنيت عام: 628ه ) مع عشرة حوانيت وفرنين واصطبل بجوارها, وغير ذلك من جملة أوقاف هذه الدار.
وهذا يدل على كرم أهل دمشق وسخائهم, خاصة على العلم والعلماء, وأعمال البر والخير, وعلى النهضة العلمية والفكرية والثقافية العمرانية والخيرية.
والجدير ذكره أن بعض النساء هي التي أنشأت هذه المراكز, كأخت الوالي أو زوجة النائب أو بنت السلطان, وهذا يشير إلى فاعلية النساء المسلمات منذ تلك الفترة في العلم والتعليم والحضارة, وكثير من العلماء قرأ على نساء عالمات,كابن عساكر الذي قرأ على ثلاث وثمانين امرأة, عدا شيوخه الذين زادوا عن الألف شيخ.
والكتاب مُصَدَّرٌ بترجمة المؤلف, سبقها تعريف بالكتاب من الأستاذ الجليل الشيخ محمد بهجت البيطار, والحق أقول أن كلام شيخنا البيطار فيه من الفكر وسعة الاطلاع واستنهاض الهمم ما لا يخفى لعين كل راءٍ, ولأذن كل سامع, وقلب كل واعٍ, أما مقدمة المؤلف الذي توفي عام: ( 1346ه - 1927م ) ففيها مغازلة دمشق, وكأن كلاً منهما للآخر حبيب مسامر, أطلق عنان خياله لينادم صاحبه وخِلَّه, وكيف لا يكون بهذا النفس وهو الذي تتلمذ على علماء عصره, كالشيخ جمال الدين القاسمي, وعلاء الدين عابدين, وسليم العطار, وغيرهم, والذي شغله كتاب الله وسنة نبيه تدريساً, وتفسيراً, وشرحاً, وتحريراً, وزاد ذلك قراءته الفقه الشافعي, ثم الحنبلي, ووسع اطلاعه ومعارفه وعلومه بما تشهد به مؤلفاته التي بلغت العشرات, وطالت كل فن شرعي ولغوي وأدبي. ومما زاد مهاراته تنمية وقلمه سيولة تعيينُه مصحِّحاً ومحرِّراً في مطبعة الولاية وجريدتها, وكتابته في صحف دمشق. الأمر الذي صقل موهبته, وأطلق العنان لخياله في مغازلة المدينة ومنادمتها.
إنه بحق كتاب علمي فكري, يسوح بنا بين ثناياه وطياته في هذه الصروح; ليظهر لنا عراقة دمشق, وعلم دمشق, وفضل أهل دمشق وسكانها.