|
ويسألونك عن جرائم الشرف دين ودنيا ويسألونك عن جرائم الشرف, والمقصود بالطبع المادة 548 من قانون العقوبات وهي مادة تنص على أنه يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد. والمقصود بكلمة العذر المحل أنه يرتكب القتل حلالاً دون أي عقاب, وقد يقوم القاضي بحبس المرتكب احترازياً لمدة يسيرة دون أن يعتبر ذلك عقاباً جزائياً أو مدنياً. لقد استقر هذا العرف وجرى اعتماده قانونياً وعرفياً ولكن الأسوأ من ذلك أن جريمة القتل هذه قد تمت تسميتها باسم محير وأدرجت تحت عنوان قانون الشرف! ومع أن المادة منقولة بالكامل عن القانون الفرنسي الصادر عام 1810 ولكن المادة للأسف عوملت في نظر بعضهم كأنها نص من القرآن الكريم أو السنة المشرفة!! فهل هذه المادة بالفعل تعبر عن روح الشريعة وهل يعتبر ارتكاب جريمة القتل هذه دفاعاً عن الشرف والعفاف الاجتماعي? إن ما يجب التأكيد عليه أولاً أن الزنا جريمة سيئة, وأن على المشرع أن يمضي في تحريم كل أشكال الزنا بدون استثناء, ولكن ذلك لا يعني إباحة القتل للخاطئ, بل الشريعة قائمة على الستر ودرء الحدود بالشبهات والدعوة للتوبة والاستغفار, ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. وبمراجعة بسيطة نلاحظ أن جريمة القتل بدافع الشرف تخالف الشريعة في ثلاثة أمور كلها من الكبائر: فهي أولاً إثبات للحد بغير بينة وهذا حرام وفيه عقوبة القذف على فاعله ومرتكبه إلا إذا كان زوجاً أو زوجة ففيه اللعان, ويحرم بعد اللعان اتهامها بشيء, ولا شك أن أي اتهام بغير بينة هو في الواقع قذف بالباطل وهو من الكبائر. والبينة كما هو معروف أربعة رجال عدول يشهدون برؤية الفاحشة بشكل ينقطع فيه أي التباس, وفي حال تردد أي من الشهود فالجلد ثمانين جلدة حكم كل من يشهد صادقاً أو كاذباً. وهي ثانياً حكم بالقتل بغير حق, حتى مع افتراض الفاحشة فالعقوبة المقررة في الشرع هي الجلد, وهي خاضعة من وجهة نظرنا للتغيير بحسب واقع الأمة والبحث عما يردع الزناة ويكفهم عن غيهم وفجورهم. وهي ثالثاً افتئات على ولي الأمر وهو حرام, إذ المكلف شرعاً بإقامة الحدود إنما هو الدولة, بمؤسساتها القضائية والتنفيذية وليس ذلك أبداً من شأن الأفراد أياً كانت غيرتهم واهتماماتهم. كما أن هذه المادة تشتمل أيضاً على تمييز بين الرجل والمرأة في الحكم الشرعي وهو مرفوض شرعاً, ولم يرد في أي من الجرائم تمييز بين المرأة والرجل في العقوبة, بل يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات وفق ظاهر قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. التبرير عادة يتم على أساس أن المطعون في كرامته وشرفه يتصرف بدون وعي وأن الدم يطير من رأسه لحظة رؤيته للجريمة ولأجل ذلك فهو ناقص الأهلية وارتكابه للجريمة يجعله في موضع لا يستوفي فيه عناصره الجرمية ومن المعقول أن لا يحاكم كقاتل تام. ومن المؤلم أن بعض كتب الفقه, وكذلك بعض أصدقائنا من أساتذة الشريعة يدرجون هذا اللون من القتل على أنه قتل مباح, ويستدلون على ذلك بحديث مابور الخصي. وخلاصة خبر مابور الخصي ما حكاه ابن إسحق في السيرة أن المقوقس ملك مصر أهدى للنبي الكريم جارية وغلاماً وقد تزوج النبي الكريم الجارية وهي مارية القبطية وقبل الغلام وهو مابور, وكان مابور يخدم النبي الكريم في بعض العوالي حيث أسكن مارية القبطية, وخلال ذلك جاء من يشي بهما للنبي الكريم ويتهم مابور بالفاحشة مع مارية, ونقل ابن إسحق أن النبي الكريم قال لعلي بن أبي طالب: اذهب يا علي فاقتل مابور , وتوجه علي من فوره إلى البستان حيث يقيم مابور وهو مشرع السيف وحين رآه مابور عرف مراده فهرب فتبعه علي فصعد شجرة فتسلق وراءه علي شاهراً سيفه, فسقط مابور من الشجرة فانكشفت عورته فإذا هو مجبوب!! فعاد علي إلى النبي الكريم فقال: يارسول الله أحدنا ترسله في أمر أفيكون كالسكة المحماة ينفذ ما أمرته أم أن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب? فقال له النبي الكريم: بل إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب فأخبره علي بما رأى فقال له النبي الكريم: أحسنت فكف عنه حينذاك. وحديث مابور الخصي حكاية مضحكة, فهي في عرف المحدثين نصوص ضعيفة واهية غير مقبولة سنداً ولا متناً, نقلها الأصفهاني في الحلية والمجلسي في بحار الأنوار, وعلى الرغم من وهاء سندها واضطراب متنها فإنها تجد من يرويها عادة على أساس أنها سنة نبوية!!. ومن المخجل أن نتورط برواية نصوص كهذه على أنها من السنة, ونبرر بها جرائم القتل, فالحكاية هذه تتهم النبي الكريم بأنه قمع قولاً يصدر أحكامه الشرعية بناء على الوشايات والإشاعات, وأنه أمر بإقامة الحد بغير بينة ولاشهود, وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يأمر بذلك, وأنه لم يمنح الخاطئ أي فرصة للدفاع عن نفسه أو إثبات براءته, وأنه أمر بقتل العبد في جريمة الزنا وقد أجمعت الأمة على أن ليس على العبد رجم في الزنا وأن عقوبته نصف عقوبة الحر, وأن النبي أمر بمعاقبة أحد طرفي الزنا وترك الآخر, وهو موقف يتنافى مع العدالة ومع المنطق, إضافة إلى تفاصيل الحكاية الكاريكاتورية في تسلق الجدران والتعربش على الشجر وانكشاف الثياب وهي حكاية أشبه ما تكون بأعمال توم وجيري ولا تمت للعقل ولا للمنطق بأي سبب ولا نسب. إن الصحيح من سيرة النبي الكريم أنه جاءه هلال بن أمية ثائراً هائجاً وقد قذف امرأته بشريك بن سحماء!! وذكرذلك للنبي الكريم أمام جمع من الصحابة, وكان الموقف يستدعي أن يرسل النبي علياً بسيفه ذي الفقار ليضرب به دفاعاً عن العفاف الاجتماعي, ولكن موقف النبي الكريم كان في غاية الحكمة والبصيرة والاتزان وقال لهلال: أمعك بينة?? ويشتد هنا انفعال الرجل ويقول: يا رسول الله أحدنا يجد مع امرأته رجلاً يذهب فيلتمس البينة!!? والبينة هنا أربعة شهود عدول يشهدون أنهم رأوا الفاحشة, ولكن النبي الكريم يكرر وهو على رأس المؤسسة القضائية: يا هلال.. البينة أو حد في ظهرك!! والحد هنا ثمانون جلدة بجريمة القذف بدون بينة! لقد كان أمراً محيراً ومفاجئاً لهلال بن أمية الذي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه, فعلى الرغم من ظهور صدقه في دعواه ولكن النبي الكريم يطالبه بالبينة ويهدده بالعقاب! لقد كان عرف الناس في الجاهلية أن القاتل هنا في هذه الحال يستفيد من العذر المحل ويبارك عمله الذي أقدم عليه على أنه غسل للعار ودفاع عن الشرف, ولكن من الواضح أن الشريعة أبطلت ذلك وأقامت نظام العدل والدولة المدنية المتحضرة مكان التقاضي بشرع الغاب, وبادر عدد من الصحابة بالدفاع عن هلال وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله أحدنا يجد مع امرأته رجلاً يذهب يلتمس البينة فلا يأتي بها حتى يكون الفاجر قد قضى تهمته!! ثم قال بغيظ: أحدنا يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه, والله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا!! قال رسول الله: انظروا إلى صاحبكم إنه لغيور وأنا أغير منه وإن الله أغير منا!! ثم التفت إلى هلال وقال مرة أخرى: البينة أو حد في ظهرك!! ويصر هلال على دعواه, وفي موقف متين في الدفاع عن رأيه يقول هلال: يا رسول الله! والله إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد!! في جرأة تعكس مدى ما منحه الإسلام للأفراد من جرأة في مناقشة الشريعة والدفاع عن الرأي. وبالفعل فقد نزل القرآن في براءة ظهره من الحد بجريمة القذف وجاءت تفاصيل اللعان وفيها المنع من محاكمة الزوج بتهمة القذف إذا رمى زوجته, وهكذا فقد جاءت الآيات ببراءة الزوج القاذف ولكنها لم تتعرض أبداً لبراءة الزوج القاتل, وظل القتل بدافع الشرف مشمولاً بعموم تحريم القتل في الشريعة, ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً. إن اللحظة مؤاتية لنقوم بالإصلاح التشريعي المأمول, وهذا الإصلاح يجب أن يبدأ أولاً من تجريم فاحشة الزنا والعقاب عليها بأشد أنواع العقاب, وبالمناسبة فإن القانون السوري الآن يجرم أكثر من سبعين بالمائة من جرائم الزنا ونحن نطالب بشمول كل هذه الأنواع من الجرائم بعقاب رادع, ومن ثم إلغاء هذه المادة التي تشرع القتل والتي تبقى من وجهة نظري عاراً يتناقض مع العدالة ويتناقض مع روح التشريع في الإسلام.
|