ومن الانشغال بالصدام بين العوالم المختلفة. تعتبر القدرة على الإبداع والابتكار من أهم العوامل التي تجعل من ألمانيا مكاناً متميزاً للتوطين الاقتصادي: فنون, أفلام, موسيقا, إعلام ... إذ يتيح قطاع الإبداع المتطور الحيوي اليوم 800000 فرصة عمل ويحقق دخلاً سنوياً يصل إلى 35 مليار يورو.
دهشة وابتكار
فيما عدا المتاحف والمعارض تحتضن برلين 400 غاليري منها 60 افتتحت العام الماضي. وأنت تزور معارض ومتاحف الفن المعاصر في برلين ستدهشك كثرة هذه النشاطات إذ يستغل القائمون على أمور الفن فصل الخريف وتواجد سكان العاصمة لإقامة فعاليات مختلفة, أما ما سوف يثير اهتمامك بداية, فهذه الحشود من المتابعين المهتمين وغالبية من الشباب تجعلك تتساءل: ما الذي يغري كل هؤلاء بتمضية الوقت في هذه المعارض رغم برودة الطقس? ولن تحار كثيراً في العثور على إجابة شافية! إنها القدرة على شد الانتباه بوسائل المتعة والترفيه وقبلهما تلك الأفكار المبدعة حيناً والعبثية أحياناً التي تتجسد في لوحات ومنحوتات وأفلام فيديو وشاشات عرض قد يصل حجم إحداها حجم جدار غرفة, ألوان وموسيقا وصخب ودفء يعم كل مكان وأماكن للراحة( كأن تجد مقاعد جلدية أنيقة أو خشبية مريحة أو فرش ديكرون مستلقية على الأرض تستقبل جسدك لتريحه وأنت تستمع إلى موسيقا هادئة عبر سماعات خاصة ) إنهم باختصار يتقنون فن التسويق والتشويق.
أيام ومعارض
بدأت رحلتنا في اليوم الأول بمعهد DAAD الذي يستضيف أعمال الفنانة الباكستانية شاهزيا سيكاندر ويقدم هذا المعهد برنامج برلين لاستضافة الفنانين ويقدم لهم منحاً في مجالات الفنون البصرية والأدب والموسيقا وصناعة الأفلام. يقدم في كل عام 20 منحة لفنانين من العالم لمدة تقارب العام, إنه خاضنة لتبادل الفن والثقافة الممتدة خلف حدود أوروبا. أما متحف BETHANIEN الذي بني عام 1847 كمشفى, فقد بقي كذلك حتى عام 1970 حيث تحول فيما بعد إلى معهد ثقافي فني يقدم المساعدة لضيوف من دول العالم ويقدم النصح في مسائل تتعلق بالفن ويقيم ورشات عمل. إنه يقدم ويروج الفنون البصرية عبر مجموعة معارض تستضيفها استديوهاته ال 25 وفيه شاهدنا أكثر من فيلم فيديو قصير لفنانين من إيطاليا والسويد .. بعد ذلك تابعنا افتتاح معرض BERLIN PREVIEW ثم معرض the art forum في دورته ال13 الذي يحتضن 128 جناح عرض من 26 دولة.بالقرب من نهر شيبراي تتربع جزيرة المتاحف, وهناك زرنا متحف الفن في شلوس بلاتز الذي يكرس جهده لعرض الفيديو آرت. غرف كبيرة معتمة وشاشات عرض صغيرة وكبيرة تقدم أفكاراً مبتكرة وفي أحدها تعرض 24 شاشة متوسطة 24 شخصاً يضعون شيئاً ما في آذانهم ويغنون ذات الأغنية ولكن بانفعالات مختلفة وكأنه تجسيد لعالم يغني كل من فيه على لبلاه دون أن يسمع أو يتواصل مع الآخر!
مجموعة بوروس
لبناء هذا المعرض- المتحف حكاية مثيرة إذ أشيد أيام الحرب العالمية الثانية كملجأ من الإسمنت المسلح الرهيب ومع مرور السنين تحول إلى مكان للمتشردين والشواذ ثم إلى مستودع للفواكه إلى أن جاء ساملونغ بوروس واشتراه, وبقي يعمل على تحسينه مدة 5 سنوات ليغدو متحفاً يضم مقتنياته في غرف طوابقه الثلاث التي أبقى على جدرانها كما كانت كشاهد للتاريخ.
أكاديمية الفنون
في هذه الأكاديمية استقبلتنا د. أنجيلا لاميرت لتشرح لنا عن أعمال الفنانين بول كلي ووالد بنجامين ومسودات أفكارهما التي تم الاحتفاظ بها, هذا بالإضافة إلى أعمال لفنانين آخرين وأفلام فيديو قصيرة كان بعضها ساحراً, في هذه الأكاديمية تمكنا من مشاهدة أول فيلم صنّعه برتولد بريخت عام 1931 عن نص بعنوان - الإنسان هو الإنسان - وكذلك فيلم مارسيل برود المنجز عام 1969 .
بيت ثقافات العالم وال TROPICS
هنا في HAUS DER KUTURENDERقدمت لنا فاليري سميث شرحا موسعاً عن قسم الفنون البصرية وأعمال الفيديو آرت, ثم اطلعنا على اعمال يدوية أخاذة لفنان فنزويلي, ولم يكن الرجل فناناً بل مريضاً نفسياً أمضى عمره في مصح عقلي ومات وحيداً في الثمانينات. أما مقتنيات معرض ال TROPICS فكانت ساحرة لأنها جاءت من بلاد أفريقية تعكس عراقة وجماليات تلك البلاد وعاداتها وتراثها الشعبي والثقافي والمعتقدات أيضا. وفي متحف الفن المعاصر HAMBURGER BAHNHOF أخبرتنا مديرته بريتا شميتز أن البناء كان محطة قديمة للسكك الحديدية دمرت خلال الحرب العالمية, وأعيد بناؤها ثم افتتح فيها هذا المعرض قبل 12 عاما ويضم 5 أجنحة واسعة, وكان حديث عن فنان ألمانيا الأشهر جوزف باييس
فتنة الأوبرا
لعلي لم أتابع عروضاً عديد للأوبرا, لكن بوسعي أن أجزم بأن ما تابعته ليلة الأحد الثاني من تشرين الثاني كان فاتناً بكل المقاييس بحيث تتساءل من اين أتت مصممة الرقص بكل هذه الفتنة والسحر ما دعا الجمهور المحتشد ليصفق تحية للفرقة لمدة تجاوزت الدقائق الخمس وبشكل متواصل وهذا بدوره استدعى عودة ظهور الفرقة بالكامل سبع مرات لتحيي الجمهور. استطاعت الكريوغراف ساشا والتز في أوبرا ديانا وأكتايون توظيف الجسد بشكل آسر وكذلك خشبة المسرح واستخدمت كل فنون الطيران المسرحي وحتى السباحة في حوض زجاجي كبير فبدت الراقصات فيه كحوريات البحر طالما أن الأوبرا تتحدث عن آلهة الجمال ديانا التي كانت تستحم عارية فلمحها أكتايون, فحكم عليه بالموت.
فن خالص
كان أسبوعاً فريداً لدخول عوالم الفن المعاصر الذي تحتفل به برلين, أفكار مدهشة مرات كثيرة تؤكد أن مقولة فكر.. اصنع .. شارك التي لمحتها في شعار أحد المعارض صحيحة يعمل الفنانون هنا على تحويلها إلى واقع, وهكذا جاء هذا الفن انعكاساً طبيعياً لبلاد تعيش رخاء اقتصادياً يؤثر بكل جوانب الحياة الأخرى فيتفرغ العقل للابتكار والإدهاش وأحياناً قد يصل مرحلة العبث اللامفهوم ربما, إنه الفن الذي يتمتع بفضاء رحب من الحرية والقدرة على التعبير والتنفس.