أرسل شخصية أسطورية إلى أسفل: إلى عالم النثر. النثر: هذه الكلمة لاتعني فقط لغة غير منظومة شعراً, بل تعني أيضاً السمة الواقعيةواليومية والمادية للحياة. والقول بأن الرواية هي فن النثر, ليس إذاً تحصيل حاصل, فهذه الكلمة تحدد المعنى العميق لهذا الفن لم تخطر ببال هوميروس فكرة أن يتساءل إن احتفظ أخيل وأجاكس بعد معاركهما العديدة بكل أسنانهما. على العكس من ذلك, الأسنان بالنسبة لدون كيشوث وسانشو هي هم دائم, الأسنان التي تؤلم, الأسنان التي تتناقص. (اعلم ياسانشو أن أية ماسة ليست أثمن من سن) لكن النثر ليس الجانب المرهق أو القاسي من الحياة وحسب, بل هو أيضاً جمال مهمل حتى ذلك الحين: جمال المشاعر المتواضعة, مثل تلك الصداقة المتسمة بالإلفة التي يشعر بها سانشو إزاء دون كيشوت. فهذا الأخير يؤنبه على ثرثرته الوقحة مدعياً أنه في أي كتاب عن الفروسية لايتجرأ تابع الكلام مع سيده بهذه النبرة. طبعاً لا: فصداقة سانشو هي إحدى الاكتشافات السرفانتسية للجمال النثري الجديد. يقول سانشو:(..قد يقنعه طفل صغير أن الليل يحل في عز الظهيرة: وبسبب هذه البساطة أحبه مثل حياتي الخاصة ولايمكن لكل تهوره وطيشه أن يفرقني عنه)
موت دون كيشوت مؤثر بقدر ما هو نثري, أي خال من أي تفخيم. سبق أن أملى وصيته, ثم ظل يحتضر طيلة ثلاثة أيام وهو محاط بالناس الذين يحبونه: مع ذلك, (هذا لم يمنع ابنة الأخ عن الأكل, والمربية عن الشرب, وسانشو عن أن يكون منشرح المزاج. لأن واقعة وراثة شيء ما تمحو أو تخفف الحزن من أن الإنسان مائت ولابد)
يشرح دون كيشوت لسانشو أن هوميروس وفيرجيل لم يصفا الشخصيات (كما كانت, بل كما يجب عليها أن تكون لاستخدامها أمثولة في الفضيلة للأجيال القادمة). بيد أن دون كيشوت نفسه متعطش لأمثولة يحتذى بها. لاتستدعي الشخصيات الروائية أن نعجب بها لفضائلها. تحتاج أن نفهمها, وهذا أمر مختلف تماماً. أبطال الملحمة ينتصرون أو إذا هزموا يحتفظون حتى الرمق الأخير بعظمتهم. دون كيشوت هزم. وبلا أية عظمة. لأن كل شيء يتضح في الحال: الحياة الإنسانية بوصفها كذلك هي هزيمة. والأمر الوحيد الذي يبقى لنا إزاء هذه الهزيمة المحتومة التي ندعوها الحياة هو محاولة فهمها. وهنا يكمن سبب وجود فن الرواية.
ميلان كونديرا