بعد الاشبتاك الدامي بين عناصر من الشرطة الفلسطينية ومسلحين من حركة حماس ما يجعل أسوأ المخاوف الفلسطينية وأخبث المخططات الاسرائيلية توشك أن تصير أمراً واقعاً.
لقد أراد شارون بانسحابه الاحادي من قطاع غزة وضع الفلسطينيين عند حقل الألغام ووعدهم بجائزة وهمية إن هم قطعوا الحقل (بسلام) مخاطباً العالم بقوله إن على السلطة الفلسطينية أن تثبت قدرتها على فرض الأمن والهدوء في القطاع قبل أي نقاش بشأن المطالب الفلسطينية الأخرى في غزة مثل المعابر والمرفأ والمطار, فضلاً عن المطالب الأهم في الضفة الغربية.
والوصفة المعروفة التي يقترحها شارون لاختبار قدرة السلطة الفلسطينية هي أن تبادر الأخيرة إلى تفكيك ما يسميه البنية التحتية لمنظمات المقاومة ولاسيما حركتي حماس والجهاد الاسلامي بما يعني ليس تجريد الحركتين من السلاح فحسب, بل إغلاق جميع المؤسسات التابعة لهما وتجريم من ينتمي إليهما أو يتعاطف معهما بجناية الإرهاب.
ولاقت إسرائيل بطبيعة الحال مساندة فورية لمواقفها من جانب الولايات المتحدة التي بادرت وزيرة خارجيتها السيدة رايس إلى دعوة حماس لإلقاء السلاح بحجة أن السياسة والمقاومة لا يجتمعان معاً وهي بذلك تقدم تبريراً ضمنياً لموقف شارون الذي يحارب حماس على جبهة أخرى بإعلان عزمه عرقلة الانتخابات الفلسطينية التشريعية المقرر اجراؤها مطلع العام المقبل إذا شارك فيها هذا التنظيم. ولاشك أن ثمة ضغوطاً قوية تمارسها إسرائيل والولايات المتحدة وربما بعض الدول الاوروبية على السلطة الفلسطينية بشأن سلاح حماس والفصائل الأخرى. ومما يسجل للسلطة وللرئىس محمود عباس أنه تعاطى بإيجابية وبراغماتية أيضاً إزاء هذه الضغوط, فلم ينجر إلى التصادم العسكري مع فصائل المقاومة من جهة وأعلن من جهة أخرى التزامه بسياسة عقلانية بشأن ضبط فوضى السلاح في الشارع الفلسطيني, وهي فوضى ليس مسؤولاً عنها بالضرورة سلاح المقاومة, بل هو السلاح المنتشر بلا ضوابط بين أيدي مجموعات مختلفة بينها من يقوم بعمليات إجرامية أو عشوائية مثل خطف صحفيين أجانب أو تصفية حسابات شخصية وعائلية.
وبالنسبة لسلاح المقاومة فقد ثبت حتى الآن أنه الأكثر انضباطاً ووعياً. غير أن تنظيم حمل هذا السلاح واستخدامه إذا دعت الحاجة يحتاج ولاشك إلى تفاهمات واضحة بين السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة خاصة بعد انكفاء المحتلين عسكرياً واستيطانياً عن معظم أراضي القطاع, فيغدو من الطبيعي أن يتوارى هذا السلاح عن الأنظار حيث لا موجب للاستعراضات العسكرية والمظاهر المسلحة في الشوارع والمدن مادام ليس ثمة عدو ظاهر ومباشر يبرر التسلح العلني.
والمتتبع لاراء وتوجهات الشارع الفلسطيني في القطاع لابد أن يلحظ أن ثمة مطالب شعبية متزايدة بضرورة غياب جميع المظاهر المسلحة ما عدا قوى الأمن ورجال الشرطة المكلفين وحدهم بفرض القانون وحماية النظام, على أن يظل سلاح المقاومة في مخابئه تحسباً لأي مواجهة مع قوات الاحتلال.
والواقع أن الحوارات التي جرت حتى الآن بين السلطة وممثلي الفصائل سواء عبر اجتماعات القاهرة ودمشق, أم من خلال لجنة المتابعة العليا التي تضم ممثلين لجميع الفصائل سلمت بمسألة وحدانية السلطة في القطاع لكن مع التعددية السياسية, ومع الحفاظ على سلاح المقاومة مادام الاحتلال للأراضي الفلسطينية وطالما يتعرض أبناء الشعب الفلسطيني لاعتداءات وانتهاكات مستمرة من جانب إسرائيل.
وبات من الواضح أن ثمة افتراقاً بين ما تسعى إليه السلطة من خلال ضبط فوضى السلاح وتنظيم سلاح المقاومة وترشيد استخدامه بالتنسيق مع السلطة, وبين ما تريد فرضه إسرائىل بدعم وتأييد من الولايات المتحدة بشأن نزع سلاح فصائل المقاومة, بل ونزع الشرعية عن أي فعل مقاوم للاحتلال عبر دمغه بالإرهاب,
إن ما حصل مطلع هذا الشهر من تصادم بين عناصر من الشرطة والمقاومة هو تجاوز للخط الأحمر باتجاه المحرمات الفلسطينية وعلى رأسها الاقتتال الداخلي, الذي كان كما تشير إلى ذلك العديد من المعطيات هدفاً رئيسياً لخطة شارون الخاصة بالفصل الأحادي.
لقد اظهر الفلسطينيون في مرات عديدة سابقة قدراً عالياً من الوعي وتحمل المسؤولية, واحبطوا خطط إسرائيل لإشعال نار الفتنة وإشغال الفلسطينيين ببعضهم البعض كي يتسنى لها التملص من الضغوط الفلسطينية والدولية لإعادة الحقوق إلى أصحابها, وبغية تصوير الفلسطينيين كشعب قاصر لا يستحق الحرية والاستقلال.
من الثابت أنه لا يمكن للفلسطينيين أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام على طريق إنجاز حقوقهم المشروعة إذا فتح- لا سمح الله- باب الاحتراب الداخلي, أو حتى الانقسام السياسي, الحاد, ذلك أن تضارب السياسات والسير في اتجاهات متناقضة, شأنه أن يجعل المحصلة النهائىة على الصعيد الوطني مساوية للصفر, فتلغي السياسات المتناقضة بعضها البعض, ولا تتيح أي مراكمة إيجابية تحسن الموقف التفاوضي الفلسطيني.
إن إسرائيل التي انحسرت نسبياً عن غزة, كانت تتوقع بطبيعة الحال أن تتجه الأنظار اثر ذلك باتجاه الضفة الغربية والقدس حيث تسابق الزمن هناك لتغيير المعطيات على الأرض عبر تسريع وتائر الاستيطان خاصة حول القدس وفي المناطق الأخرى التي لم تعد تخفي خططها لضمها إليها. ولذلك فإن من مصلحة إسرائيل, وفي صلب تفكيرها إشغال الفلسطينيين أطول مدة بمشكلات قطاع غزة سواء التي تثيرها هي لهم عبر قضايا مثل المعابر والمرفأ, أم عبر دفعهم لمصادمات داخلية تلهيهم وتلهي العالم عما يجري في الضفة والقدس من سرقة منظمة للأرض والموارد بفعل الاستيطان واخطبوط جدار الفصل العنصري.
والمرحلة الراهنة تتطلب وعياً فلسطينياً خاصاً مقترناً بإرادة صلبة لتفويت الفرصة على إسرائيل والارتقاء بالأداء السياسي للجميع من سلطة ومقاومة لتقديم صورة مشرقة للشعب الفلسطيني تجعله أهلاً للمطالبة بحقوقه وتتيح تركيز الضوء على ممارسات سلطة الاحتلال واغتصابها اليومي للأرض الفلسطينية.