تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الكوجيكي .. روح اليابان الحيّة

ملحق ثقافي
2018/10/9
نور طلال نصرة

في وقت كانت فيه بلاد الشمس مجرد قبائل يابانية تنضوي تحت مظلة حكومة ياماتو (نارا) في القرن الرابع عشر، برزت الحاجة إلى وضع كتاب الـ كوجيكي،

وأضحت الحاجة أكثر إلحاحاً في القرن الخامس وبداية القرن السادس بعد أن أصبحت الخلافة الإمبراطورية موضوع جدال وإشكال. كان الهدف من هذا الكتاب تثبيت الأصل الإلهي الممجّد للعائلة الإمبراطورية، وجاء بقرار شجاع من الإمبراطور ميجي عام 1867 عندما وضعه في مقدمة الأولويات وقرر الانفتاح لإنقاذ بلاده من الفقر فكان هذا الكتاب سداً منيعاً ضد الحداثة المستوردة من الغرب. وبذلك تم إحياء كتاب الكوجيكي بما في ذلك قصصه وحكاياته التي تتضمن أسرار إثبات الأصل السماوي لجزر الأرخبيل اليابانية وإثبات ألوهية أباطرتها منذ القديم وحتى الآن.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

«لم يكن قد مضى على إقامتي في الأرخبيل الياباني أكثر من سنة، عندما قال لي أحد الأصدقاء، في معرض حديثنا عن الصعوبات التي تعترض أبناء الثقافات التوحيدية في التكيّف داخل المجتمع الياباني: لا بد أن تقرأ كتاب الـ كوجيكي، وإذا أعجبك لا بدّ أن تنقله إلى العربية، إنه واحد من التراثات العالمية، نص قديم يعيش في داخله التاريخ والأساطير والشعر والجنس والعنف والحكايات الغريبة والآلهة وأولاد الآلهة، كان ذلك منتصف 199» بهذه السطور استهلّ د. محمد عضيمة مقدمة ترجمته لكتاب الكوجيكي الصادر عن دار التكوين في دمشق.‏‏

فماذا يقول كتاب الكوجيكي؟ وكيف نُسجت خيوط الألوهية بين الإله السماوي والإله الأرضي (الجزر- الإمبراطور)؟‏‏

في الكوجيكي؛ الامبراطور رمز سماوي «إلهي» بُعث من السماء ليكون إلهاً، فهو الدرع الروحي لشعبه في مواجهة غزو الثقافة الغربية وحداثتها. تتجاوز هذه الفكرة المادية للألوهة مفهوم الإله كونه فكرة متعالية في السماء ليصبح الارتباط ارتباطاً مادياً إلهياً بشكل أو بآخر ويُشكل تقاطعاً مع مادية الحضارة المستوردة.‏‏

يقسم الكوجيكي إلى ثلاثة أجزاء: الأول مكرّس للخلق، أي ولادة الجزر (الأرخبيل الياباني)، تمهيداً لنزول الآلهة- أجداد العائلة الإمبراطورية- إلى الأرض، والثاني يمتّد من عهد الإمبراطور جيم إلى عهد الإمبراطور أوجين. أما الجزء الثالث فينتهي بشكل طبيعي في عصر المؤلّف. وحسب الكوجيكي فإن أرض الجزر هي ابنة الطبيعة وهي من فعل الآلهة، أي بنات الآلهة، وبهذا تكون الطبيعة مقدسة ويجب العيش ضمن قوانينها، وبما أن هذه الأرض مقدّسة فيجب أن تحكمها الآلهة أو سلالتها المتمثلة بـ (الإمبراطور). فالأباطرة هم أبناء الجزر والجزر منهم، ومن هنا أتى مفهوم الدولة المقدّسة لدى الشعب الياباني لتكتمل بذلك خيوط القداسة بكافة أطرافها وتلتف لتشكل مفهوماً صامداً للسلسلة الإلهية في مكوناتها الحضارية سماء وأرضاً وتاريخاً وحضارة متجذرة.‏‏

والملفت أن حكاياته وقصصه ذات طابع تعليمي، كما إنها لا تُلقّم بشكل تقليدي بل يتم بثّها بطريقة وديعة عبر برامج التلفزة للأطفال والمسلسلات الشعبية وحكايات الجدّات حتى ليغفل الياباني أن ما يحفظه من قصص وعِبَر هي أصلاً من كتاب الكوجيكي.‏‏

قصة الخلق مع الزوجين إيزاناكي وإيزانامي‏‏

هذان الزوجان الإلهان تزوجا بأمر من الآلهة وأنجبا جزر الأرخبيل والآلهة اليابانية، تموت بعد ذلك الزوجة إيزانامي وتنتقل إلى بلاد الجحيم أو بلاد الظلمات، لكن بلاد الجحيم لا تحمل معنى سلبياً كما في الديانات التوحيدية بل تعني الموت فقط.‏‏

يلحق الزوج بزوجته إلى عالم الظلمات عندما يشتاق إليها، لكنه يصاب بالذعر عندما يراها بمنظر مريع، فيعود إلى عالم النور. ولم تستطع الزوجة اللحاق به، لأنها تناولت وجبة طعام من بلاد الظلمات. يأخذ بعد ذلك الزوج بالتطهّر لما رآه في عالم الجحيم، فيولد له من هذه التطهرات أربعة عشر إلهاً بينهم ثلاثة نبلاء هم: الإلهة الكبيرة أماتيروسُ (الشمس) التي وُلدت عندما طهّر عينه اليسرى، وجلالة – حاسب- الأقمار، تسكي يومي- نو- كامي، الذي وُلد عندما طهّر عينه اليمنى، وجلالة – الذكر – القوي- السريع- العنيف- هاياسُسَانو، الذي وُلد عندما طهّر أنفه. ثم قسّم العالم ليحكمه هؤلاء الثلاثة فأوكل إلى أماتيراسُ أن تحكم مدّ السماء الأعلى، وإلى تسكي أن يحكم مجال الليل (القمر)، وإلى هاياسُسانو أن يحكم مجال البحار (فهو رمز الأرض بجميع مشكلاتها) ويُختصر اسمه فيما بعد إلى سُسَانو. ويشير المترجم الدكتور عُضيمة إلى أنه بالرغم من الدور الكبير الذي يلعبه كل من أماتيراسُ وسُسانو في قصة هذه الأساطير إلاّ أنّه الأخ الثالث (القمر) غائب فعلياً في الكوجيكي، على الرغم من تكرار ذكر القمر في الكثير من الشعر الياباني القديم والحديث.‏‏

نقرأ في الكتاب الكثير من الأساطير وقصص الميثولوجيا التي لا تنحصر أبعادها ورمزيتها كونها أساطير، بل تتعدى هذا المجال لتكون بمثابة تقاليد وطقوس متجذرة في اليابان حيث لكل عنصر دوره المهم ورمزيته العميقة.‏‏

وعلاقة الابن الياباني بأمّه‏‏

يُقدّم المترجم شرحاً يسيراً في الكتاب ويسهب في الحديث على ضوء معرفته الجلية والعميقة بالمجتمع الياباني وخباياه. فرمزية سُسانو تأتي من عدم تنفيذه لأمر الأب (لم يرفض لكنه لم ينفّذ وأخذ بالبكاء) بعد توزيع أدوار الحُكم بين الأبناء الثلاثة. نرى هنا شخصية مثيرة وإشكالية ويُصعب فهمها، فهو يُمثّل رمز العنف والقوة بالرغم من أن سبب غموضه هو بكائه معللاً سبب البكاء بشوقه وحنينه لأمه مما دفع والده لنَفيِه.‏‏

لكن هل بكى سُسانو لأنه اشتاق إلى لأمه حقاً؟ أم ثمّة سبب آخر يتجلى في خوف الإنسان من الوجود؟ أم غيرته من أخته أماتيراسُ بعد منحها حكم السماء الأعلى من قبل الأب؟ أي جعلها في مرتبة تفوق مرتبة ولديه الاثنين. هناك أسئلة كثيرة لكن المترجم يقدم وجهة نظره بناءً على معرفته الشخصية بالمجتمع الياباني، ويقول إن علاقة الابن الياباني الذّكر بأمه هي علاقة حميمية ومعقدة، بينما هناك نفور بينه وبين أبيه ومن جهة أخرى، وتبرز ظاهرة تفضيل الأب الياباني لابنته على ابنه الذكر بشكل جلّي في كل عائلة تقريباً.‏‏

وأضاف المترجم أن الأمر قد لا يكون محصوراً بالمجتمع الياباني وحده إلاّ أنه يبدو ظاهراً للعيان وبشكل كبير، أي أنه لدينا سُسانو في كل عائلة يابانية حتى اليوم. ويلفت نظرنا د. عُضيمة أن سُسانو ليس شخصية ملعونة في اليابان بل هو رمز الانفعال والقوة، كما أن جميع هذه الأساطير ليست بعيدة عن الميثولوجيا الإغريقية والشرقية.‏‏

يُعد الكوجيكي روح اليابان الحيّة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فهو النّص الأساسي للروحانية اليابانية غير البوذية، حيث تمثل الشنتوية الديانة الأكثر انتشاراً وتأتي البوذية في المرتبة الثانية. إنّه الكتاب الميثولوجي الأهم بأساطيره وحكاياته ورموزه، يتجذّر في عمق الأرخبيل أرضاً وشعباً وتاريخاً وحضارة وذاكرة. فهو ليس بالكتاب القديم الذي بطل مفعوله ولم يعد يجدي مع حضارة اليابان الحديثة، بل على العكس، لقد بثّ الروح في التكنولوجيا الحديثة عندما بلغت شواطئ بلاد الشمس المشرقة، وشكّل الوعي الثقافي وجعلهم على مقربة من ملامسة الواقع المادي بكل حداثته دون المساس بالروح اليابانية.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية