تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


فنون الجسد والروح

ملحق ثقافي
2018/10/9
د. محمود شاهين

الحرف والصناعات اليدويّة التقليديّة الشعبيّة الأصلية، وعلى امتداد الساحة العالميّة، تشكل امتيازاً رفيعاً، تحمله في العادة أسر معينة، أو مؤسسات معروفة، تتناقله بالوراثة وبما يشبه النذر المرصود على أفراد هذه الأسر دون غيرها، وهو بقدر ما يضرب في الماضي الأبعد والأقرب للأمة أو الشعب، يضرب في الحاضر والآتي أيضاً.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

على هذا الأساس، تأتي أهمية العاملين في مجال الحِرف والصناعات والمشغولات اليدويّة التراثيّة وضرورة رعايتهم والمحافظة على أيديهم التي يجب أن تُلف بالحرير.‏‏

يتميز الفن الشرقي عموماً، والفن الإسلامي خصوصاً، بسمته الاستعماليّة الاستخداميّة. فهو فن موضوع في خدمة الحياة اليومية للإنسان، على تنوعها وثرائها وتعددها. من أجل هذا دخل ميادينها كافة، بدءاً من العمارة الخارجيّة، والعمارة الداخليّة (الديكور) وانتهاءً بالحِرف والصناعات والمشغولات والأدوات، إضافة إلى اكتناز هذا الفن، على جماليات مجردة، قادرة على مغازلة البصر والبصيرة في آنٍ معاً.‏‏

من أجل هذا، ولتماهي هذه الفنون بفكر وروح وعادات وتقاليد الإنسان الشعبي، من جهة، ومن جهة أخرى، بممارسته لحياته اليوميّة، نجدها في بيوت السكن، ودور العبادة، والشوارع، والمحال التجاريّة، والأسواق، والمشغولات اليدويّة، والأثاث، والثياب، ووسائل النقل، وغالبية الأشياء والأدوات التي تسعف الإنسان في ممارسة ميسرة، وسهلة، لهذه الحياة، وتقدم له في الوقت نفسه، إمتاعاً بصرياً جمالياً يرشح مباشرةً إلى روحه.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

خارج العمارة وداخلها‏‏

لقد التصقت الفنون الشعبيّة الشرقيّة عموماً، ومنذ البداية، بوظائف ومهام لها علاقة مباشرة، بخدمة الحياة اليوميّة للإنسان. أي لا يوجد بينها فن لمجرد الفن كما ظهر في الفنون الغربيّة. مع ذلك، ورغم بروز وسطوة القيم الاستعماليّة، احتضنت الفنون الشرقيّة قيماً فنيّةً وجماليّةً مجردة، سبقت في حداثتها وقيمها الرفيعة ما توصل إليه الفن الأوروبي بعد ولادة الاتجاهات الحديثة فيه، وتملصه من سطوة الفن الإغريقي الروماني عليه، وانفتاحه على فنون الشعوب الأخرى التي كان الغرب الأوروبي ينظر إليها نظرة دونيّة، حتى قام مثقفوه (وفي مقدمتهم الفنانون التشكيليون) بتغيير هذا الانطباع، عندما اعتمدوا تراث هذه الشعوب، منصة رئيسة للانطلاق نحو الحداثة والمعاصرة.‏‏

تتوزع الفنون الشرقيّة على مرافق حياة الإنسان كافةً، وفي مقدمتها العمارة، حيث تماهت القيم الاستعماليّة والجماليّة في مظهرها الخارجي: في كتلة البناء وعناصرها العاموديّة والأفقيّة، وفي الفراغات التي تتخللها، وحركتها العامة في الفراغ، وتوافقها مع ما يحيط بها من كتل معماريّة أخرى، أو فراغات، مشغولة بالأشجار والنباتات ومساحات العشب. وفي الوحدات الزخرفيّة والتزويقيّة والتزيينيّة التي ترصع بعض واجهات العمارة وكتلها الداخليّة والخارجيّة، وتُنفذ هذه الوحدات عادةً، في المادة التي تُنجز منها العمارة (رخام، حجر، إسمنت) بمواد وخامات مضافة إليها (فسيفساء، خزف، قاشاني، رخام ملون، معدن). وقد تأتي على هيئة إضاءة مدروسة (طبيعيّة أو اصطناعيّة).‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

كما نجد هذه الخاصيّة الجماليّة التزيينيّة في شكل الأقواس والأبواب والنوافذ ونسبتها لحجم الإنسان، وارتفاعات الجدران، وفي طرز الأثاث، وما تحمل سطوحه من زخارف وتزاويق موزعة هي الأخرى، وفق نسب مدروسة كحجم، وكموقع، وكشكل، وكلون، وكتموضع، وكخامة أو مادة (خشب، حجر، زجاج، قاشاني، خزف، معدن، قرميد، رخام ملون).‏‏

بمعنى آخر: تتبدى خاصية الجمع الموفق بين القيم الاستعماليّة والجماليّة، فيما شاع اليوم باصطلاح (الديكور)، حيث نجدها تتعالق وتتعانق: في الأثاث والأبواب والنوافذ والمنابر والمقرنصات والأقواس ومساند القرآن الكريم ووسائل الإضاءة (قناديل، فوانيس) وفي الحرف والمشغولات اليدويّة المختلفة، المتعددة الاستخدام في الحياة اليوميّة، كالأباريق، والكؤوس، وصناديق الحلي، وقوارير العطر، والمزهريات، والشمعدانات، والمباخر والصواني، والصحون. ونجدها في البحيرات والفسقيّات ومناهل المياه الأخرى المتعددة المهام، وفي المقاعد، والأسرّة، والطاولات، والكراسي، والخزن، والرفوف، والحواجز (البرفانات) وفي لوحات الخط العربي، والسيوف، والخناجر، والأقنعة، وسروج الخيل، وزينة الجِمال والخيول، والبسط، والسجاجيد، والأقمشة المنسوجة... وغير ذلك الكثير. حيث تصر الذائقة البصريّة للإنسان الشرقي عموماً، والعربي خصوصاً، على زخرفة وتزويق وتزيين وتجميل الأدوات التي يستعملها في حياته اليوميّة، والمرافق التي يَحركُ ضمنها، بهدف إرضاء الجانب الآخر في نفسه المعادل للجانب المادي هو الجانب الروحي، وقد انتقلت هذه النزعة القديمة-الجديدة لديه، لتشمل وسائل النقل الخاصة والعامة.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

تعايش وانسجام‏‏

لقد حرص الإنسان الشعبي، على استنهاض القيم الاستعماليّة والقيم الجماليّة، في فنونه ومشغولاته وحِرفه وكل ما يستعمل في حياته اليوميّة، وبكثير من البراعة والتعايش والانسجام والإدهاش، بحيث ترد الأولى، على حاجته الماديّة، وترد الثانية على حاجته الروحيّة. وبهذا التعايش ومن خلاله، يتوازن الإنسان مادة وروحاً. فالقيم الاستعماليّة في الفنون الجميلة والحِرف والمشغولات، تلبي متطلباته الماديّة اليوميّة في الأكل والشرب والنوم والاغتسال والبيع والشراء والعمل والسفر والاستراحة والتنقل، والقيم الفنيّة الجماليّة المتمثلة في تجميل هيئة المبنى من الخارج والداخل، والتصميم الأنيق للحاجات التي تسعفه على ممارسة حياته اليوميّة، أو تلك التي ينضدها فوق الرفوف، وعلى الطاولات، من تحف وصمديات ومشغولات فنيّة، أو التي تتوسد الجدران والأسقف، من لوحات، وسجاجيد، ومنسوجات، وزخارف، وكتابات، وجميعها يحرص الإنسان الشعبي الشرقي، على أن تكون جميلة الشكل، وحاضنة لزخارف وتزاويق وكتابات، لها مدلولات وإشارات مرتبطة بذائقته الجماليّة،‏‏

وبعاداته وتفكيره ومعتقداته وموروثه، لذلك فهي تغازل بصره، وتتناغم مع أحاسيسه، وتطلق روحه في فضاءات تطربها، الأمر الذي يفضي إلى توازنه واستقراره (فيزيولوجياً وسيكولوجياً). فبقدر ما يحتاج الإنسان إلى طعام للاستمرار به ومن خلاله، في الحياة، يحتاج إلى الجمال المتعدد الأشكال والصيغ والمجالات، لتحريك مساحة التخيل لديه، التي تقوم بتحرير أحاسيسه وعواطفه ونزعاته من ماديتها، وإطلاقها في فضاءات روحيّة رحبة وواسعة ومريحة، والفنون بشكل عام، خير وسيلة إلى تحقيق ذلك. سواء البصريّة (عمارة، فنون تشكيليّة، مسرح، سينما، تلفاز) أو شفاهيّة (حكايا، سرديات ومرويات، شعر) أو مكتوبة (رواية، قصص، مقالات) أو سمعيّة موسيقيّة (أغاني وقطع موسيقّية).‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

حاجة متناميّة‏‏

خاصية التماهي الساحر والمتوافق، بين القيم الماديّة الاستعماليّة والقيم الجماليّة التزيينيّة، في الفنون والحِرف والمشغولات الشرقيّة، تتأكد وتزداد حاجة الإنسان المعاصر إليها، يوماً بعد يوم، لاسيّما بعد طغيان الميكنة وسطوتها على حياته وأحاسيسه وعواطفه، فوجود الفن في مرافق حياته والأدوات والأشياء التي يستخدمها في حياته اليوميّة، أو في العمل الفني الخالص الذي بات يستسيغه، ويأنس إليه، ويربطه بسكنه ومكان عمله: كاللوحات، والتماثيل، والمحفورات المطبوعة، والتحف الفنيّة، والمشغولات اليدويّة، والأغاني، والأفلام السينمائيّة، والتلفزيون، والموسيقى) يخفف من السطوة الباردة لهذه الميكنة، على عواطفه وأحاسيسه، ومن ضغطها الشديد (المباشر وغير المباشر) على بدنه وروحه.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية