تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


آخر أيام تموز

رسم بالكلمات
الأثنين 12-12-2011
فاطمة عيسى قراجه

صقيع يغلف الأشياء كلها.. صقيع على الطاولة.. يتصاعد على رف الأدوية.. ينزلق بمهارة على أرضية الغرفة العارية.. ينهمر كشلال على سريري ووسادتي ولا يجد ما يقتات عليه سوى أحشائي..

بينما أنت يا فينوس ما زلت تعبرين القارات عبر العصور غير آبهة بالجليد, وتجوبين الصحارى حافية عارية إلا من شلالك العاجي الذي يسلب العقول والقلوب بلا مبالاة ... وأنا هنا في هذه الغرفة السحيقة الواسعة, البرد يلهو بروحي, النافذة البيضاء, الجدران, ملابس الممرضات.. لون حيادي مستفز يهجم على وجودي يمتد كامتداد السماء ولا ترحل سحبي التي تمطر مطراً أبيض على كومة عظامي ..‏

من هذا الدّعي الذي قال أننا في شهر تموز؟ يبدو أنه لا يعلم أن تموز نزل أدراجاً مظلمة لا نهاية لها.. فكلما نزل درجة تختفي وتمحى من خلفه, كما تزول آثار الضباب والسراب.. وأنت يا فينوس تروحين وتجيئين دون أمل في أن تدخلي غرفتي لحظة واحدة ... لو دفقة من الدفء تنفخينها على روحي المطفأة, كثر هم المرضى الذين دخلوا وخرجوا متعافين إلا أنا بقيت وحيداً يتيماً أصارع الوحدة وهواجس الألم في هذا المستشفى. أيام مرت.. لم تأت زوجتي لتطمئن بكلمات قصيرة مقتضبة عبر الجوال وهي تتذرع بآلاف الذرائع.. الأطفال الصغار, أهلنا في أبعد مدينة.. لكنها تستطيع كل يوم زيارة جيرانها .!‏

خرج الممرض ضاحكاً من غرفتي منذ قليل وهو يهددني إذا لمح سيجارة في يدي لسوف يطفئها بين عيني. كم تملقتهم من أجل سيجارة, لكن كلهم ضدي ..ماذا أقول لك وأنت مثلهم؟ تصلبت وتحجرت لحظة التقط النحات لك تلك الوضعية الرائعة.. هل كنت تستحمين بالنهر الخالد.. ركضت إلى شالك تلتحفين بعفوية مخادعة.. كان ما استتر منك أجمل وأبهى مما ظهر. من أين سيأتيك البرد وقد تعلقت العيون بخيوط شالك المراوغ؟‏

رحت تعبرين العصور على رمال ذهبية, تعتلين المنصات, تسكنين أفخر القصور, يضعونك حجر أساس للساحات والميادين, وأنت على ما أنت لا تكترثين بالآخرين, فكيف ستلتفتين لمريض يقارع من أجل دفء يمده لأيام هانئة وأنت الشمس والحياة كلها ....‏

وقفت على باب غرفتي وكيس المصل يتدلى كشبح مائي على عمود يرتجف خلفي, أتسول (تشعيلة) من أي أحد, أريد سيجارة, فيضحكهم طلبي وهم مسرعون لا يتوقفون على بابي ,أعادني الممرض إلى السرير وهو يعدني بالخروج اليوم.. وصل أنابيب شفافة إلى جسدي الذي تموت عروقه, طالبني بعدم الحركة ثم خرج وتركني لهجمات البرد التي تقتات على ما تبقى من أعصابي. مرت من أمامي تلك المرأة المتوجة بأبهة فينوس. صحت لها وأنا على يقين من أنها لن ترد ...يا للسماء! لقد توقفت ونظرت نحوي! طلبت منها غطاء يستر رممي, ابتسمت فأشرقت الدنيا بتموز دافئ هني, لم تتكلم,عادت خلال دقائق بابتسامتها الحنونة, هي لم تحمل الغطاء وحسب, بل نشرته على هزيل عظامي. قالت: هل تحتاج غطاء آخر؟‏

شكرتها, فاستدارت وكأنها كوكب يدور الكون حوله, من أين جاءت بهذا الحنان كله؟ إنه ينثال من طيات ثوبها, كنت أراها تهتم بالمرضى الذين يقيمون بغرفتها رغم ما تعاني, كم حسدت زوجها وحقدت عليه لأن الله خصه بزوجة رقيقة وأنا أعاني من زوجة جحودة. في الحقيقة لا علم لي إن كانت متزوجة, لكنني رأيتها تجلس قرب رجل, كان يمسد شعرها حين تأتيها الحالة وتصبح في غيبوبة.‏

ها قد جاء الممرض لفك سلاسل الصقيع عن جسدي. قال ضاحكاً: بعد ساعة استراحة تستطيع الخروج, رافقتك السلامة‏

لا أعلم لماذا دهمتني كآبة مفاجأة, لا أريد الخروج إلى بيتي الجاحد. أشعر بتعب شديد, ثم كيف سأترك فينوس تلك المرأة العاشقة في هذا المكان؟ وهي التي اعتادت أن تعبر الغابات لتستحم بأنهاره, اعتادت أن تمشي حافية على رمال الصحارى الذهبية لتغسل قدميها بواحاتها ...إنها تستولد الورود من بين أصابعها.. تنتعل عيون الرجال.. تسير على صدورهم دون أن تترك أثراً لخطوها.. كيف أتركها وحيدة؟ قد يسرقون شالها, عطرها, قد ينزعون راحة بالها.. لن أتركها وحيدة ..‏

تجاوز الوقت النهار ,والنجوم تطل بعينيها المضيئة من نافذتي, تدخل غرفتي المعتمة, تصنع براقع فضية راسمة أخيلة لأوراق الأشجار العالية على الأسرة والأرض, تتغير أشكالها حسب حركة الهواء وكأن رساماً يغير خلفية لوحته كل حين فهو غير راض عن عمله..‏

أحاول النوم لكن الظلال المتراقصة تسرق راحة بالي, سأنهض لأعيد الغطاء الذهبي, حملته ورحت إلى غرفة فينوس..لا يوجد غيرها بالغرفة, بجمالها ودفئها.. كانت نائمة لا يظهر إلا وجهها الذي يشيع دفئاً وحناناً لا مثيل لهما. تسمرت قرب الباب مثل تمثال من رمل, أحسست أنني بتقدمي سأكون رجلاً بلا أخلاق, وإن ذهبت دون شكرها فأنا لا أمت للآدمية بصلة, كنت مذهولاً من ذلك السلام الذي ينتشر من أهدابها ..كم هي متعبة حتى تنام بهذا العمق؟ إنني أختنق ..خطوة للأمام, يدها تحت الغطاء, من قال إننا في شهر تموز؟ لقد نزل تموز إلى قاع ظلمته, واصل سيره نحو سراديبه, ولن يمر على عيوني من جديد, كيف له أن يعود وليس له أدنى أمل في إيجاد محبوبته ..‏

لقد أعطتني غطاءها رغم شعورها بالبرد, ما أجمل هذا الغطاء الأخضر الذي تفوح منه رائحة التراب المعطر بأوائل الأمطار السخية, كأنه قطعة من الأرض طوتها فينوس المتحايلة وجعلت منها غطاء يستر وحدتها وآلامها التي لا تبوح بها ..‏

تقدمت أكثر ونشرت فوقها مرجها الأخضر.. يا إلهي لو أستطيع أن..........‏

لو أن الزمان يتوقف هنا.. على هذه العتبة.. أمام هذا السرير الأبيض.. لم أعد أريد أياماً إضافية تزيد من عمري..لا أريد منك شيئاً أيتها المرأة النائمة.. ابقي كما أنت نائمة تشعرين بنعيم الراحة..أنا حارسك الأمين.. أقوم باحتياجاتك كلها, فقط دعيني قربك, مديني بهذا الدفء, فالبرد يجهش في أعماقي, وينوح حولي.. ليس في شهر تموز فقط, بل في فصول اليباب كلها .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية