تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


شعر«الرمزية»: العودة إلى تراث الأمة

ثقافة
الأثنين 12-12-2011
ممدوح السكاف

يرى بعض دارسي الأدب العربي ومؤرخي مراحل تطوره واتجاهاته وفي مقدمتهم الأديب الناقد جورج طرابيشي- أن (المذاهب الأدبية) ليست بطارئة على حياتنا الأدبية ولابجديدة فيتساءلون :

أفلا ينضوي عدد من شعراء الجاهلية اللامعين تحت لواء مدرسة أوس بن حجر المعروفة بمدرسة عبيد الشعر؟ ويعتقد غيرهم أن «عمود الشعر» كان مذهباً فنياً فرض نفسه على امتداد العصرين الجاهلي والأموي وشطر من العصر العباسي ويذهب آخرون إلى أن «مذهب البديع» الذي أسسه ووضع قواعده الشاعر الخليفة عبدالله بن المعتز وانسلك فيه أبو تمام، وإضرابه قد شغل اهتمام الشعراء والنقاد في زمانه وأضرم نار خصومة شعرية لم تخب شعلتها بتتابع الأجيال، وتضيف جماعة من مؤلفي الموسوعات والكتب الأدبية إلى ماسبق قولها إن تاريخ الأدب العربي بجماعه قد درس علىأساس التطور الفني وتعاقب مراحله كما فعل الدكتور شوقي في كتابه العلم( الفن ومذاهبه في الشعر العربي) إذ أرخ لتطور الأدب العربي على مذهب الصنعة والتصنيع والتصنع...‏

لكن يبدو أن أصحاب الآراء المشار إليها سالفاً غاب عن ذهنهم أن المذهب الأدبي كمصطلح نقدي أو مدرسي لاينهض كما يؤكد المنظرون له على أسس جمالية فقط بل هو وحدة متلاحمة مضموناً وشكلاً، مبنية على حزمة من مبادىء فنية وأخلاقية وفلسفية مترابطة إضافة إلى أنه ليس من إبداع فرد واحد إنما هو حصيلة مشروع جماعي تتضافر على إعلاء صرحه جهود وطاقات ومعارف أجيال متوالية من الأدباء المبدعين والنقاد المؤسسين تعبر عن طبقة اجتماعية صاعدة في مجتمع حضاري يرتبط تقدمه بتقدمها وتراجعه بتراجعها، أما على الصعيد الأدبي الخالص فإن المذهب يعمل على تخليص الأدب من بروق الالهام الشخصي ونزوات الإبداع الفردي، إنه باختصار جملة من قواعد وضوابط عامة للموهبة الذاتية وليست بديلة عنها.‏

يصرح بعض نقاد الأدب الأوروبي المحدثين ويشايعهم في ذلك لفيف من المهتمين العرب المعاصرين بالنقد الأدبي والدراسات البحثية على اعتقادهم أن من أعظم الظواهر التي سادت في الشعر العالمي الحديث ثم المعاصر ظاهرة الانتشار الملموس لحركة الشعر الرمزي في آداب اللغات الحية الممتدة فوق خارطة المعمورة.‏

عربياً تناول الناقد الدكتور أنطون عطاس كرم في كتابه (الرمزية في الأدب العربي الحديث) الصادر عام 1948 وهو بحث منهجي أكاديمي موسع تاريخ الرمزية العالمية وأشهر شعرائها، وشعر شعراء الرمزية في لبنان خاصة وعلى وجه التحديد شعر سعيد عقل. كما درس الدكتور درويش الجندي في مؤلفه (الرمزية في الأدب العربي) هذا المذهب(أي الرمزية) في الأدب العربي القديم والأدب الإسلامي والأدب العباسي والأندلسي وخرج بالنتيجة الآتية.‏

عن الأدب الجاهلي:« ومعنى ذلك أن البيئة الجاهلية لم تكن صالحة للرمزية بالمفهوم الغربي، أي بمفهوم تلك الرمزية التي تغوص فيما وراء الحس وتحاول التعبير عما لايمكن التعبير عنه تحت ستار من الأوهام والأحلام وفي لفائف من الظلام والغموض»‏

ينفي الدكتور الجندي وجود المفهوم الغربي للرمزية في الشعر العربي بمختلف عصوره الإسلامية الأخرى، لكنه لايستبعد توافر بعض الخصائص التي تجمع بين هذا الشعر وبين الرمزية الغربية الحديثة تقرب بين الاتجاهين مثل الإغراب والإحالة والتعقيد اللفظي عند شاعر كأبي تمام أو بشار بن برد أو المتنبي، إضافة الى اصطناع البديع والاهتمام بالتورية والإبهام والإكثار من حشد فنون البلاغة كالمجاز والاستعارة في النصوص الشعرية لدى هؤلاء الشعراء في حين نلحظ أن الدكتور الباحث حامد أبو حمد في دراسته( الشعر العربي والرمزية) المنشورة في العدد /305/ من مجلة (العربي) الكويتية -نيسان 1984- يصوغ فكرته حول هذه القضية التي نعالجها فيقول« فبدلاً من أن نبحث: هل يتفق ما في الشعر العربي من رمزية مع المفهوم الحديث للرمزية الأوروبية أولاً، يجب أن تطرح المسألة على النحو التالي: هل يمكن أن نجد في شعرنا العربي القديم بعض الخصائص التي تمثل أصولاً للحركة الرمزية أو ..لا.. فالغربيون عندما يبحثون عن أصول الحركة الرمزية يعودون الى كتابات من مهدوا لها مثل الشاعر«أدغار ألن بو» والفيلسوف سويد نبرج والمعروف أن تمهيدات هذين الرائدين في التعريف بنظرية الرمزية لا تتفق بالطبع مع المفهوم المتعارف عليه للرمزية بعد ذيوع أشعار (بودلير) و(فيرلين) و(فاليري) وغيرهم ولكن إرهاصات(بو) و(سويد نبرج) الموطئة للرمزية كانت بمنزلة مقدمة تمهيدية لهذه الحركة.‏

إن العودة الى كتب التراث العربي- وما أكثرها- وقراءة ما جاء فيها من منظوم ومنثور تبين لنا أن (الرمزية العربية) سداها اللفظ والتعبير ولحمتها البلاغة والفصاحة، فمن أوتي علماً باللغة وأسرارها عليه حل الرمز الذي رمى إليه الشاعر العربي وقصده أو بتخريج آخر حل(التورية) ولغزها، أو الجناس التام ومعنى كل من الكلمتين المتجانستين (ولو كان لدينا متسع في حجم هذه المقالة لأتينا بعشرات الأمثلة على ما نطرحه) وهذا في أدبنا العربي هو أحد الفوارق اللغوية بين الرمزية الغربية والرمزية العربية، وهو كالفارق بين اللغة العربية والخيال العربي وبين اللغة الغربية والخيال الغربي فلكليهما خصائصه ومزاياه ولكليهما روحه ومحيطه.‏

لاشك أن شعرنا العربي القديم مترع بالصور الإيحائية والدلالية وبالقدرة على التلميح لا التصريح كما أنه يوغل في الإغراب والمعاظلة وشرود المعاني وضبابيتها ويذهب في الإغلاق الى حد يكاد يكون أبعد مما ذهب إليه الرمزيون المحدثون أنفسهم مثل قول شاعر الطبيعة والحب ذي الرمة: للجنّ بالليل في حافاتها زحل‏

كما تجاوب يوم الريح عيشوم‏

هنُا وهنّا ومن هنّا لهنّ بها‏

ذات الشمائل والإيمان هينوم‏

دويّة ودجى ليل كأنهما‏

يمُّ تراطن في حافاته الروم‏

يعلق مورد هذا المقتطع الشعري الدكتور حامد أبو حمد عليها فيقول: نظلم الشعر العربي إذا قلنا عن مثل هذه الأبيات إنها في نطاق الرمزية بالمفهوم الأوروبي بحجة أنها لاتدخل غير مستوحاة من الحس الباطني ، وإنماجاءت من الإحساس الخارجي الذي يدق أحياناً فيبصر ماقد يفوت على النظر العادي ،كما أننا نظلم الشعر العربي حين نطلب من ذي الرمة أن تكون أدواته الفنية مثل أدوات الشعراء الفرنسيين بودلير ( تداخل معطيات الحواس) وفيرلين‏

( الموسيقا ... الموسيقا قبل كل شيء الموسيقا) رامبو (كيمياء الألفاظ والتعبير بألوان الحروف) ونظلمه حين نطلب منه أن يتخطى عصره بأكثر من عشرة قرون عندما نصف شعره بأنه صادر عن إحساس خارجي ، لأن الشاعر إذا كان صادق الحس يستبطن الإلهام الداخلي المستكين في أعماقه) .‏

ملاحظة : إن الشروحات الموجودة داخل الأقواس السابقة هي من عمل صاحب هذه المقالة.‏

وهاهو الشاعر العباسي الضرير بشار بن برد يصف امرأة حسناء لم يشاهدها قط إلا بخيال تفكيره وقوة شعريته حين يقول:‏

حوراء إن نظرت إليك‏

سقتك بالعينين خمرا‏

وكأن تحت لسانها‏

هاروت ينفث فيه سحرا‏

وكأن رجع حديثها‏

قطع الرياض كسين زهرا‏

فهل نجد هنا صورة تقليدية في تشبيه رجع الحديث بقطع الرياض المكسوة بالزهر وهل نجد وجه شبه موضوعي عقلاني بين رجع الحديث وقطع الرياض المزهرة .. إن الصورة في هذه الأبيات هي الصورة الإيحائية الرمزية التي تتفوق بطريقة تركيبها وبما فيها من تراسل حواس تجعل القارىء يعيش في عالم ساحر من صنع الإلهام الخلاق والطاقة الإبداية للشاعر العربي القديم ومشاركته في عزف سمفونية الشعر العالمي الرمزية مشاركة لها خصوصيتها واستثنائيتها .‏

ولعل الضالعين في قراءة تراثنا الشعري كالأديب السوري سعد صائب لاينسون الأبيات السيّارة لأبي العلاء المعري ومافيها من إغماض المعنى وإلغازه في مثل قوله:‏

إذا صدق الجد افترى العمّ للفتى‏

مكارم لاتكرى وإن كذب الخال‏

فيشرح صائب الكلمات الرمزية بقوله يريد بالجد الحظ وبالعم الجماعة والناس وبالخال المخيلة وقد رمز بذلك إلى العم والجد والخال من النسب‏

أو أبيات للمتنبي الذي أخذها عليه وعابها الصاحب بن عباد ومازال القوم مختلفين في معاني بعضها كقوله:‏

ذم الزمان إليه من أحبته‏

ماذم من بدره في حمد أحمده‏

وقد أورد أحد التراثيين قصة طريفة عن أبي تمام وابن العميثل قال: قصد أبو تمام عبد الله بن طاهر بقصيدته التي أولها:‏

أهنّ عوادي يوسف وصواحبه‏

فعن فقد ماأدرك السؤل طالبه‏

وعرض هذه القصيدة على أبي العميثل صاحب عبد الله بن طاهر وشاعره فقال له أبو العميثل عند إنشاده أول القصيدة : لم لاتقول ياأبا تمام من الشعر مايفهم ، فردّ عليه أبو تمام قائلاً وأنت ياأبا العميثل لم لاتفهم من الشعر مايقال:‏

هذه ملامح خاطفة من مذهب شعرائنا الرمزي وهم مبتكروه والسباقون إليه فمن ظلم العربية إذن أن يتجنى على آدابها نفر حانق من المستشرقين ومن يسير في ركابهم من العرب فينعت خيالها بضيق الأفق وقصر مداه ولئن بانت رمزيتنا بهذا الثوب فليس لعجز في الفكر العربي العميق ونضوب في الخيال العربي الطلق وقصر في مدى العقلية العربية المبدعة وإنما هو في بعد العصر الذي اكتشف فيه وهو عصر سابق لعصرنا وزمان يغاير زماننا ، فليس لنا إذن أن نقيس آداب القرن العشرين بآداب القرن السادس لما بين الأعصر من تفاوت وفوارق في التفكير والخلق والإبداع .‏

وهانحن نتساءل مع الأستاذ الناقد جورج طرابيشي: أيضير تراثنا الأدبي ألا يكون قد عرف المذاهب الأدبية كما عرفتها الآداب الغربية؟الحق إن أولئك الذين يزعمون أنهم يدفعون عن أدبنا التليد تهمة النقص حين يحاولون أن يجدوا لدينا بأي ثمن مذاهب ومدارس على منوال الآداب الغربية هم الذين يعانون من عقدة نقص فهم يطالبون أدبنا أن يكون نسخة طبق الأصل عن أدب الغرب أو أن يقدم أوراق اعتماده استناداً إلى أعراف غير أعرافه متناسين أن الأدب ابن شروطه التاريخية وأن لكل أدب منحاه الأصيل لو خرج عنه لضل عن طريقه وأصالته معاً..‏

m.alskaf@ msn.com‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية