المؤرخ والطامح لقراءة الحضارة قراءة فلسفية بإبراز مزايا الحضارة الأوروبية التي ينحدر منها وأهمية ما فعلته في العالم كيف وحدته وأثرت في ثقافات و حضارات الشعوب الأخرى باكتشافاتها الجغرافية والعلمية والفلسفية.
وفيما يقوم هو بضم العشيقة وتقبيلها, يترك الجميع مأخوذين بالمشهد ينهشهم الحسد وتأكلهم نيران الغيرة ولا يكتفي توينبي بذلك بل يقوم بمد لسانه لكل هؤلاء الحساد, ذلك أن أوروبا تبدو له بمثابتها حدثا فريدا في العالم واذا كان هناك من شعب استطاع أن يتطور وأن يغدو أكثر حداثة فبسببها, والولايات المتحدة الأميركية غدت كذلك لأنها سرقت أوروبا من خلال المهاجرين الذين غادروا مواطنهم الأوروبية واتجهوا اليها.
مما لاشك فيه أن توينبي عاشق محترف وكتابه (الحضارة في الميزان) يكشف عن هذا الاحتراف خصوصا وأن عشيقته تقدم له مالا تستطيع العشيقات الأخريات تقديمه لعشاقهن, أما توينبي العاشق المحترف فيعرف كيف يقدر مفاتن عشيقته ويحترمها وأوروبا فعلا قدمت للعالم الحديث المعاصر الكثير الكثير وهي قد حدثته فعلا ونظرا, فاكتشاف الكهرباء ومد السكك الحديدية واختراع الطائرة وغيرها من الاكتشافات والاختراعات التي غيرت حياة الناس وربطتهم بعضهم ببعض في شتى ارجاء المعمورة ترافقت مع ولادة افكار عن التنوير والديمقراطية والاشتراكية والرأسمالية والدولة ومفهوم الطبقة والثورة والتغيير, باختصار فقد غيرت اوروبا الحداثة العالم وقلبته رأسا على عقب.
ولكن توينبي العاشق حتى الوله والذي تتآكله الغيرة على عشيقته يرتكب فعلا سينهي العشق والوله ويغرقه في الرتابة عندما يتزوج تلك العشيقة محولا إياها من عشيقة إلى زوجة, وكما يحرج الزوج من الحديث عن غرامياته السابقة يأخذ توينبي بالحديث عن الحضارات السالفة عن الحثيين والسومريين, عن الاسلام, عن البوذية, عن المسيحية ولكن بخجل واذا اضفنا إلى توينبي بعد زواجه هذا صفة المؤرخ وتلك مهنته فإننا سنكتشف أزمته الحقيقية فالمؤرخون كما الأزواج يخونون ويبررون خياناتهم ويظل تأنيب الضمير ينهش أحلامهم ويقض مضاجعهم وتوينبي المؤرخ يريد ولا يريد يريد البوح والاعتراف بدور الحضارات السالفة واستهاماتها في التاريخ البشري العام وفي الوقت نفسه يريد أن يخفي ذلك الدور وتلك الاسهامات حتى لتبدو تلك الحضارات كعشيقات سريات لتوينبي, يحن اليهن ولكن ماذا بشأن كرامة الزوجة وقداسة الزواج ماذا عن التاريخ الذي يحوله المؤرخون إلى مقدس عندما يفشلون في رؤية بعده الفلسفية هذا البعد الذي يشي بالطابع المدنس للتاريخ والذي يكشف عن التاريخ باعتباره نتاج المصالح والنوايا الشريرة والدنيئة والخبيثة اكثر منه نتاج الطيبة والوداعة التاريخ باعتباره نتاج الداسائس والمؤامرات والتخاذل أكثر منه نتاج التعاون والتعاضد والمحبة,التاريخ باعتباره من نسج العشاق والعشيقات وليس من نسج المتزوجين والمتزوجات.
وتاليا فقد كان على توينبي أن يشرح الحضارة الأوروبية باعتبارها فعلت ما فعلته في العالم لتحقيق مصالحها فقط فارتكبت كل الموبقات, موبقات التاريخ الحقيقي فأبادت هنا واستعمرت هناك وأخفت حقائق وغيرت أخرى أو زيفتها, أوروبا التي أقامت عدالتها على الظلم وسيجت سجونها بأسلاك (الحرية) الشائكة, أوروبا هذه التي دفعت بأشرعة سفنها لتجوب البحار والسواحل بحثا عن التوابل والفضة والذهب فاكتشفت مصادفة أن الأرض كروية وهي نفسها أوروبا التي غيرت إنجيلها لتبرر حروبها الصليبية, أوروبا العشيقة التي تلتقي عشاقها في الظلام وتخشى النور والشمس, أوروبا هذه حولها توينبي إلى زوجة مصون وحول نفسه إلى زوج عليه أن يقدم لها في كل لحظة دلائل الإخلاص والطاعة فيما هو يخفي تاريخا طويلا من العشيقات السريات المغدورات والمخذولات بهذا الشكل خسر توينبي نفسه كعاشق كما لم يستطع أن يقرأ الحضارة كفيلسوف.
الكتاب: الحضارة في الميزان. - المؤلف: آرنولد توينبي. - ت: أمين الشريف. - وزارة الثقافة - دمشق .