وليس بمجرد إذكائها وإطلاق رياحها العاتية, إننا بالمحصلة نبحث عن مشروعية الموقف عبر قواعد الحدث ومقوماته وحينما ننجز هذا الربط نكون أول من يعي أهداف الحدث وآخر من يبقى في الظل وعند المنعطف يتلطى بالادعاء ويغطي وجوده باللامبالاة وبالثرثرة مرة أخرى.
وما زال هذا الأمر يشكل مأزقاً حرجاً في حياتنا السياسية العربية, نحن على الغالب لا نرتبط بالحدث, قد نتحدث عنه ولكننا لا نعي حقائقه ولا نضبط سلوكنا عليه حتى لقد جاز فينا وصف الآخرين لنا بأننا صوت جغرافي أو حقل تجارب أو موقع يصلح لاستدعاء المنكر من الأفعال لبيئة لا تنكر ولا تستنكر, ويقيني أن السبب في اختفاء عوامل الربط العربي السياسي بين الحدث والموقف منه إنما يعود إلى مكونات بذاتها تراكمت حتى أصبحت ركاماً, واجتمعت حتى صارت قيداً وعقبة واستقرت في داخلنا, في عمق قضايانا وفي طبيعة تعبيرنا ومنطقنا حتى غدت مألوفة لدينا, وبقدر ما عاثت الأحداث فينا فساداً غذيناها بالصمت ومضى كل موقع يخترع من التبرير ما يزور في الوقائع وما يحول الموقف إلى مجرد كلام عابر يؤشر ولا يقرر, يقال ولا يتم العمل به, عندها أخذت الأحداث مداها في الواقع العربي.
والأحداث قوى خارجية مع مشاريعها وغاياتها وتطبيقات مستوطنة تتحرك بكل الأبعاد دون أن يعترضها أحد, ودون أن يحتج عليها إنسان ولهذا يوصف الحدث الخارجي في الداخل العربي بأنه آمن غير معرض للخطر, مرشح للتمادي فهو يبدو فكرة ثم ينمو إلى أن يصبح مشروعاً ثم يقفز مباشرة إلى البيئة العربية ويأخذ مداه بلا خوف أو قلق, لعل ذلك يعود كما أسلفت إلى أسباب جوهرية وليس مضافة, أختار منها ثلاثة أسباب:
أولها أن الإنسان العربي منقطع عن واقعه وهو محاط بكل الأسوار والخنادق التي تقصيه عن هذا الواقع وإذا كان لا بد من روابط فهي قائمة بالانتماء المعنوي وهيجان المشاعر واستدعاء نخوة الشعر وسحر البيان وتدبيج الشعارات الموزونة على وجه السرعة وهذه إشكالية خطرة لأن المجموع العربي يطلق على الموهوم وينجذب إليه في حين تبقى مصادر الحياة ومقاصدها بيد من لا يرحمنا ولا يترك رحمة الله تنزل علينا, إننا تماثيل اسطورية مع قضايانا, معلقات من الشعر وأسفار مبوبة من النثر والديباجات عالية السقف غائرة العتبات وهذا ما يسحب منا الوهج وضوابط الحركة ثم يحولنا إلى مجرد هياكل تنفعل بما يدور حولها وتكتفي بذلك دون أن تفعل شيئاً.
وثاني الأسباب هو هذا الدور الذي تصالحت عليه القوى السياسية العربية, حينما صار لدينا حكم بلا هوية والهوية تقيم قواعدها المواقف وتصوغ مضامينها المواجهات ومعارك الحياة التي لا تنفصل وتنطق لمادتها عبر العلم والديمقراطية والإعداد والاستعداد والسيطرة على الموارد وربط كل مقادير الحياة بالهدف الأسمى والشعب الأكثر سمواً.
لن يحدث شيء من ذلك فما زال العرب يرون في القضايا والمواقف مجرد صياغات طارئة تحمل مزايا التداول وتتقبل فكرة التعديل والتنازل والتجميد,وأما السبب الثالث فهو في هذا الركام الذي استوعب إفرازات مراحل القهر والتخلف وقدم العرب وقضاياهم على أنهم أمة تجيد الألم وتكتفي بحدوده, تصرخ من داخلها لكنها لا تصرخ على هذا الداخل, حتى لقد استقرت هذه النزعة في الحياة العامة للعرب بأنهم لا يجيدون العيش بدون المأساة وبعيداً عن القهر الخارجي والداخلي, إنه ركام النفايات وقد أراده البعض عبر المتسللين إلى الفكر والثقافة والإعلام والقيم الحائرة والتقاليد البائرة, أرادوا ذلك كله موطناً معنوياً ومعاشياً لا يرى الإنسان فيه إلا هذا التوالد والتناسخ من مأزق لآخر ومن جوع إلى موت ومن استكانة إلى صمت مطبق.
هذه عوامل مختارة من سلسلة حسابية أنتجت وأفرخت وتكرست في حياتنا السياسية وبموجبها قطعت العلاقة بين الحدث والموقف منه, وتم اختلاق صور غير معهودة في العالم بموجبها يتحول العربي المسكين إلى مجرد متفرج على جرحه أو إلى مجرد شاهد زور يصفق في العتمة وينادي في الخلوة ثم يتوقف هو والحدث عبر الأكوام التي صارت تشكل ركام واقعنا وليس تراكمه.
ويحدث في هذه الأيام أن يكون الحدث الموجه للعرب في أعتى صوره وأقسى معالمه ولا نعرف على وجه التحديد هل هي المصادفة أم هو الاختيار المنظم ليكون الحدث مزدوجاً, زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن إلى المنطقة والأزمة الغريبة المستعصية في لبنان الشقيق, ولن نختلف على عناوين الحدثين وبنودهما وفقراتهما الظاهرة والمروجة وسوف يكون من شأن هذه الرؤية السطحية أن تفرز مادة مخدرة تغتالنا ولو لآماد قصيرة ونحن نضحك على أنفسنا ونكون (بأبهى) حالات الفرجة على المسرح والمسرحية وما فيهما وعليهما, لكن الأمر المحزن متصل ببنود أساسية لعلي أشير على عجالة إلى أربعة منها :
1-هل هناك شعور أو مجرد انطباع على الأقل بأن هذين الحدثين بوش ولبنان يتصلان بنا ونتصل بهما, هل تجمعت مفردات هذا السؤال المر, هل أصيبت السياسات العربية والإعلامية ببعض العدوى والصحوة? هنا تبدأ الكارثة حينما يدهمنا الخطر ونتعامل معه بمقولة آخر خليفة عباسي (إن بغداد تكفيني) أرأيتم إلى هذه الصورة والإعلام العربي ينقل المواكب وينشر الملامح المأفونة للذين لا يتعبون من تقبيل بعضهم والترويج لما يحدث بينهم.
2- أرأيتم إلى إيقاع الشارع العربي وقد أقصي من التداول وعلمته وسائل الإعلام أنه في منأى عن الخطر ما لم يتمرد على الوافد وما معه, ما ردود الفعل على زيارة بوش للمنطقة? صمت مطبق وأفق مزدحم بكل ما هو غريب وهجين وتثاؤب إعلامي يقول للجماهير نحن نصور, ونحن نحكي, ونحن نمتعكم بالفرجة وندهشكم باللقطات الاستثنائية, أما أنتم فثقوا أن هناك من يعالج الأمور ببلادة الضمير وخدعة الحكمة والحاكم ومقولة الصبر المتطاول التي مل منها الصبر ذاته.
فعلاً يريدون العرب محمية بشرية فاقدة الحواس ليس بطريقة ما ورد عن القردة الثلاثة في كليلة ودمنة حيث يفقد كل قرد حاسة واحدة, بل بطريقة أن يكون العربي إنساناً لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.
3- والبند الثالث قائم عبر عزل الأحداث عن استحقاقاتها, ماذا يريد بوش من العرب هل تابعناه جميعاً وهو يستخف بنا? يطالبنا بأن نكون مؤدبين مع اليهود وبأنه مستعد لكي يرعانا مع قضايانا بعين العطف إذا ما أثبتنا له ولقيادة الكيان الإسرائيلي أننا نحسن الصمت وصارت لدينا خبرة ابتلاع الطعم وما نعد به من انحناءات وتنازلات هو أكثر بكثير من أهداف بوش في المنطقة ورعونة الأزمة اللبنانية الخانقة.
4- ويبقى البند الرابع مختزناً للقصة بكاملها فهو الاستحقاق والمقياس معاً, فماذا كان عند العرب لكي يواكبوا رحلة التزوير الأميركي إلى بلادنا وقضايانا, من الذي احتج وأين هو صوته أين هي الجماهير العربية التي تحشد بمئات الآلاف لموسم رقص أو غناء لتلبية ادعاء فارغ?