من خلال من هو المحظوظ ومن هو المدعوم ومن هو المضمون بمجيئه إلى مجلس الشعب الوطني, إن الحالة محيرة على وجه اليقين, وهناك على الدوام من يتخذ موقفا سلبيا دون دراية ودون مسؤولية وهناك على الدوام أيضا من يتحف الآخرين بالوصف المحنط والمدح الكلامي والمهم في الأمر هو أن الظاهرة الديمقراطية ما زالت هي المستثناة من الحوار والتداول عبر الدخول في حقائقها ومصادر تأثيرها والقواعد التي يجب أن تحكمها, وبصورة مباشرة لقد تحولت وسائل الإعلام إلى مجرد قنوات لنقل الأخبار وللحديث العادي والعابر عن هذه الظاهرة, وهذا ما يكسب الديمقراطية مستوى من المراوحة في المكان ويسحب منها الجوهر تحت طغيان التضخم في متابعة المظهر ووصفه وتكرار ملامحه التي باتت معروفة ومكشوفة, أحب في هذا المقام وأنا أراه سامياً وخطيراً في سياق واحد أن ألتقط أفكاراً ثلاثاً من منظومة القواعد المؤسسة للعملية الديمقراطية بكاملها1.- إن المسألة تتصل أساساً بالبنية الفكرية الديمقراطية, لأن الشكل الديمقراطي ليس أكثر من مجرد أطر ووسائل تنظيم للتعبير عن هذه البنية الفكرية ونحن بصورة عامة ديمقراطيون في الشكل في حين أن البنية الفكرية ليست على هذا النحو والبنية الفكرية الديمقراطية لا تنجزها الشعارات, هي بالأصل حرب على الاتجاهين معاً, حرب على الادعاء من جهة وحرب على حصر المسألة في الشكل والكادر التنظيمي لقد تداخلت في أعماقي هذه الفكرة التي أطلقها الرئيس بشار الأسد بهذا المعنى حيث يقول هل الديمقراطية حرية الرأي, هل هي حرية التعبير, هل هي التصويت واختيار الممثلين.., لا شيء من ذلك على الإطلاق وهذه مجرد وسائل للتعبير عن الديمقراطية التي تقوم في الأصل على البنية الفكرية, من الواضح أن لدينا ثغرة صعبة للغاية بهذا الفهم والاستيعاب لأن المحاولات المحمومة تجري بلا توقف لإقصاء عوامل الثقافة ومصادر التفكير وإيقاع التطور في الاطلاع والتفاعل عن العملية الديمقراطية نفسها, إن لحظة الصراع الراهنة الآن في الخيار الديمقراطي تتمثل بين اتجاه يعتمد المنهجية والوعي والثقافة والاستيعاب وذلك كله يحتاج الى مجهودات كبرى من الفرد وإلى حضور أكبر على خط التحولات الجارية في الوطن أو خارجه واتجاه آخر لا يحتاج لكل هذه المؤهلات تحت وطأة التمثيل القطاعي والطبقي والكم المحسوب من الأتباع الجاهز أبداً لإعطاء الصوت دون تدقيق فيمن نصوت له, ومن المؤكد أن الوعي الديمقراطي لا تنتجه ولا تطوره إلا البنية الفكرية الديمقراطية ومن عناوين هذه البنية:
- الحاضن الثقافي والمعرفي بدرجته ونوعيته عند الإنسان.
- الانتماء الوطني والسياسي والطبقي بما يعبر عن واقع ويهدف إلى بناء أساس من التكامل والمساواة على خط نظام الأولويات الوطني.
- التمايز وليس الامتياز في درجة الوعي والاستيعاب والانخراط في عملية اتخاذ القرار والاستعداد للدفاع عن الخيارات ووجهات النظر.
- وضع الإنسان بقيمه وموقعه في المحرق تماماً واستبعاد تلك النزعة القائمة على توزيع الناس عبر هياكل ووصفات جاهزة.
إن البنية الفكرية الديمقراطية تتحرك في هذه المعايير ومن الواضح أن الأساس فيها هو الجهد بل الجهاد الذي لا يلين وصولاً إلى تأمين عناصر هذه البنية المتحركة.
2- والفكرة الثانية التي تنتظم المسألة الديمقراطية تندرج في نطاق الانتساب للواقع بشروطه واحتياجاته وامتلاك النظرة المنهجية في تحديد المناخ السياسي العام والتحديات الراهنة أو المتوقعة التي يتعرض لها الوطن, أي أن الديمقراطية هنا هي تكون طاقة التبصر بالواقع من جهة وقوة البناء من جهة أخرى وأسلحة الرد على التحديات المتكاثرة والمتوالدة, وحينما نقنن هذه الفكرة في انتخابات مجلس الشعب سوف نرى أن المسألة تفرض حضورها حيث لا بد من مفاهيم أولا ومنهج أولويات ثانياً ونماذج بشرية تحقق هذا التوصيف وتكون قادرة على إنجاز متطلباته بكثير من الوعي والإصرار, وهكذا فحينما نحمل الأشخاص على هذه القاعدة سوف نجد الكثيرين منهم قد آثروا الانسحاب والانزواء, أما إذا غابت هذه المعايير فسوف يرى كل مواطن عادي في نفسه ومواصفاته موقعاً مؤهلاً لهذا المنسوب الديمقراطي في مجلس الشعب, بالتأكيد فإن كل مواطن شريف ونظيف وهو طيب ومعطاء, وهذا مصدر حيوي للغاية في فهم البناء الوطني والتشكيل الاجتماعي .
3- إن المفاهيم الديمقراطية تنتمي عادة إلى مصادر ثلاثة, الأدبيات الديمقراطية بالفكر والثقافة والخبرة كمصدر أول, والمنهج الديمقراطي القائم على نظام الأولويات وتغليب المصلحةالعامة وتطوير منسوب الوعي الاجتماعي وثنائية البناء والمراقبة, كل ذلك يتطور بنا إلى المصدر الثالث وهو خلاصة التجربة والمقصد المهم والاستحقاق الذي لابد منه وهو مستوى الإيمان والفاعلية عند من يتصدى لرفع راية الديمقراطية, هنا لابد من أن تحتسب الفاعليات الذاتية والشروط الاجتماعية والمادية ومسيرة الإنسان في حياته كخط متداخل تماماً مع متطلبات المسألة الديمقراطية, هناك من يتحدث جيداً لكنه ينقلب على حديثه, هناك من يطرح هموم الناس من الفقراء البسطاء والمظلومين لكنه لا يندمج مع هذه الحالة ولا يقوى على الاستمرار بموجبات ما طرح وهناك مستغلون وأثرياء ما زالوا يعتقدون أن القرار يشترى بالمال وبأن الناس مجرد جياع وهو مستعد للهاث خلف من يمده بشيء ما من احتياجات هذه الدنيا الظالمة والعاصفة, هل نستطيع أن نركن إلى مجرد الطرح وإطلاق الشعارات, أليست حالة مأساوية أن يتصدى لرفع لافتة الديمقراطية أحياناً من لا يملك سوى ذاته لا يعرف الغيرية ولا يضع في اعتباره مشوار الألم, يستأثر ولا يؤثر وتجذبه غواية الوجاهة بأنه قد حقق مأربه وأثبت ذاته, وهنا لابد أن أشير إلى مسألتين مهمتين:
الأولى منهما أن الديمقراطية هي التيار المتكامل لنقل المجتمع من اللحظة الراهنة المقيدة إلى ميادين التطور وسد الحاجات وإدخال كل التعديلات اللازمة للالتحاق بموكب العصر والاندماج بحقائق العلم والعمل والمساواة وحقوق الإنسان الموحدة والمتساوية, فالعضو المنتخب لمجلس الشعب على سبيل المثال هو مرصود لمهام مقبلة ولفاعليات آتية مع الاستثمار الواعي لكل الأبعاد والمحصلات التي وصل إليها الوطن لكن الديمقراطية هي الحياة بجوهرها وكل خطوة في هذه الحياة استثمار لسابق وتأسيس للاحق, أنا لا أتحدث هنا عن علم المستقبل الذي صار في عالم اليوم المنهج المستقر والمنطلق الحقيقي لأي إنجاز أو تطور ولأية مواجهة مع الاحتمالات القادمة, إن هذا المنسوب لما يدخل بعد في حياتنا المحكومة حتى هذه اللحظة بالتقاليد والأعراف الاجتماعية والأمزجة الشخصية, لكني أؤكد على هذه اللمحة الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها في ممارسة الديمقراطية, إن الإنسان بعامة وممثل الديمقراطية بخاصة هو مدع أو عابر سبيل مالم يستوعب كل ما كان ويستثمره كخبرة ووعي فيما يجب أن يكون إن الديمقراطية بجوهرها هي التأسيس للمستقبل ولذلك نرى أن قلة هي التي سوف تصمد أمام استحقاقات هذه الفكرة, وأن الكثرة الكاثرة سوف تكتشف أن ما استندت إليه من مخزون مكرور وحضور اجتماعي مبرور وحظ اختياري مشهور سوف لن يسعفها على الإطلاق في تلبية حاجات الديمقراطية أعني حاجات الوطن وآمال الناس وضرورات الحياة في لقمة العيش وفي الكرامة وفي العطاء والابداع وفي الالتحاق بركب الحضارة العالمية الراهنة, إن كل هذه المعاني وهي المصادر التي ما زال يلح عليها قائد هذا الوطن الرئيس بشار الأسد والتي ما زالت تستحوذ على مصداقية الجميع من المؤهلين هي التي تقرر هذا الافتراق بين خيار طبيعي صاف وعالي الأبعاد وخيار آخر هو مجرد الشكل والموقع المحجوز وإثبات الذات الفردية ليس أكثر, لكن الأمر هو معركة أو في مستوى المعركة ولن يأتي سهلاً مسترسلاً كما يتصور البعض ومن هنا تأتي حالة (الخطل) فيما تأخذ به بعض الجهات المسؤولة في الحزب والدولة ضمن اعتبارات صلاحية وحقوق هذه الجهات في أن تختار من تشاء وأن تفرض من تريد في قوائم الانتخابات, على أن المسألة الثانية وهي الهامة والضاغطة بدورها إنما تأتي من خلال الوعي الدقيق والأكيد بأن التمثيل النيابي والمؤسساتي هو جزء من الديمقراطية وهو مجرد خطوة ولأنها خطوة أولى يجب أن تكون صائبة ويجب أن تحاط بدوافع الأمانة وبعوامل المسؤولية إلى أقصى درجة, إن ما يحدث هو استسهال لهذه الخطوة الأولى الأمر الذي عوم المفاهيم وجعل الامتياز أكبر من الدور تحت سيالة الضغط بأن الأمر عادي وما هو مهم حصراً هو أن أكون عضواً في مجلس الشعب مؤسستنا الديمقراطية الأولى, إن قصر الديمقراطية على الحالة التمثيلية والانجذاب الكلي نحو التسمية القانونية المتداولة يحرم المجتمع من أدوات التقويم من جهة ومصادر الاختيار من جهة أخرى, ولعل هذا الفراغ الواسع والمتسع بين الجزء والكل, أعني الجزء التمثيلي والكل الديمقراطي قد ترك دون مراقبة وانجذبت الفاعليات الإعلامية والثقافية والحزبية والاجتماعية للغوص في الأسماء والمسميات وفي النصوص الضابطة للعملية الانتخابية ومن ثم في هذا اللجوء (للتنجيم) الاجتماعي لمعرفة حظ هذا الشخص أو ذاك وما أكثر العرافين والعرافات لكن الأخطر منهم جميعاً هو من لا يتقي الله ولا يحتسب الوطن في وجدانه ولا يدقق في احتمالات الخطر القادم على البلاد والعباد.