خوفا من أن يفيض غليانا من صميم الطغام حيث تصير فريسة لداء عياء إلى أن نندب متأخرا ولزمان طويل ضرورة كفاحنا ضد العدوى وننتقل من خطأ إلى خطأ ومن شقاء إلى شقاء وسط عالم تشيع فيه روح معادية لا نقوى على صدها والتغلب عليها).
هكذا كانت حال روح لورد بايرون المتوثبة نحو الحياة بطريقة خاصة به طريقة مبتكرة في معاينة كل ما حوله وسافر كل أسفاره معبرا عن رغبة ونهم يصل إلى حد التهور في التعرف إلى الحياة بكل تنوعاتها وأشكالها وخبثها وتقصي العمق منها..
عبد الرحمن بدوي قام بترجمة هذه النصوص في صيف 1944 وقد أعيد إصدارها ضمن سلسلة أعمال التي تصدرها دار المدى يقول بدوي: في مقدمة ترجمته عن لورد بايرون إنه لا يستطيع أن يستسلم لهذه الطمأنينة الباردة لأن الهدوء جحيم بالنسبة إلى النفوس المتوثبة إن ثمة نارا وحركة في النفوس التي تأبى أن تنحصر في دائرة وجودها الضيقة بل تصبو إلى ماوراء حدود الرغبة المتوسطة المعتدلة إنها حين تشتعل مرة بهذه النار العسيرة الإطفاء لتحترق عطشا إلى المخاطر العالية ولا تتعب من شيء إلا من الراحة فخصائصه النفسية مثل صفة الازدراء والفردية قد جعلتاه برغم الطبيعة والموضوعات الخارجية على الدخول في قوالبه الخاصة بدلا من أن يتكيف هو إياها ويستخلص روحها فكان يفرض عليها نفسه وروحه ويطبعها بمزاجه الخاص وما في طبيعته من اضطراب عاصف قد جعل آثاره الفنية مضطربة النظم لم يسيطر على تكوينها عقل هادئ ينميها خطوة فخطوة, فيحاول أن يوفق بين أجزائها ويبنيها حجرا حجرا حتى يتكون عن هذا بناء متلاحم متماسك الأجزاء إنما كان محموما في كتابته غير منتظم في تأليف سريعا في الانجاز لأنه لا يصبر على التنميق والتوفيق وإحكام الربط بين الأجزاء ومن هنا لم يبرع في الموضوعات التي تحتاج تسلسلا ولا تقوده فكرة تنظيمية موجهة لبناء كلي فلا تجده يسرد الافكار بطريقة متصلة إنما يقذف بها على هيئة خواطر مستقلة كأنها لمحات ولوائح ولوامع تهجم على عقله ومن هنا جاء ميله إلى اتخاذ أسلوب الفقرات المنفصلة كما يشاهد خصوصا في أروع اثاره ( أتشيلد هارولد) و ( دون جوان).
النقاد يتفقون على أن شخصية بيرن في اتشيلد هارولد هي الأكثر تعبيرا عن شخصية لورد بايرون فهي تصور بيرن الشاب العاكف على اللذات لكن بدرجة أقل مما حدث لها رولد - الذي ورث اسما ماجدا وقصرا عتيقا كان مأوى للفضيلة من قبل وصار على يديه ملاذا للعربدة والفجور فلما بلغ منه الملال وخيبت آماله التجارب القاسية لأحوال الناس- من نفاق وخداع- فارق قصر أبيه معتزما التجوال في القارة الأوروبية غير آسف على شيء من الأشياء ولا على حي من الأحياء التي خلفها وراءه وركب سفينة أقلته إلى أسبانيا حيث كانت الحرب الضروس قائمة بين نابليون من جانب والاسبان والانجليز من جانب آخر فجلس خلال هذا في الاقليم الرائع الجمال وتغنى ببطولة أبنائه وجمال بناته وأنحى بأعنف اللوم على المستضعفين منهم الذين لم يحملوا السلاح لطرد الغازي المغتصب ووصف المعارك الطاحنة التي دارت بين كلا الفريقين وعرج على الملاهي الوحشية لهذا الشعب الفطري مثل مصارعة الثيران وحين بلغ أثينا تملى جمالها مستلهما ماضيها العريق وبكى على أطلالها الدارسة واستعاد ذكرى مواطنها المقدسة للفن والجمال وثار على استسلام الشعب اليوناني للأتراك ثم رحل إلى ألبانيا.
وهناك أعجب بشعبها الأبي الفطري الغرائز الوحشي الطباع وأشاد بحاكمها علي باشا ياينا وبهذا تنتهي رحلته الأولى وبالنشيد الثالث تبدأ رحلته الثانية التي غادر فيها بلاده إلى غير رجعة أولا إلى بلجيكا حيث زار مسرح القتال الأخير واصفا ساحة واترلو وبكى على صديق له مات شهيدا في هذه المعركة ومع مجرى نهر الراين سافر مغادرا بلجيكا حتى منابعه في سويسرا حيث يبلغ بحيرة ليمان حيث تذكر روسو قبل أن يتابع إلى ايطاليا مبتدئا بالبندقية:( عرافة البحر التي انبعثت من أعماق المحيط) تغنى بجندولها الشهير وقصورها وكنائسها وفي روما أقام طويلا متذكرا أمجادها الحربية مستعرضا أهم أحداث التاريخ القديم منه والحديث لافتا الانتباه إلى دروسه وعبره يؤكد د. بدوي أن أهم ما لفت بايرون هناك هو ( مجد الماضي وزواله وفعل الزمان الجبار في كل شيء يخضع لسلطانه وتفاهة كل جهودنا الإنسانية التي لا يلبث العدم أن يبتلعها في هاويته السحيقة وعجز الإنسان أمام القدر العاتي الذي يحطم له كل ما أبدعه من آثار رائعة وتحف فاتنة.
قراءة أسفار أتشيلد هارولد ستدفع القارئ إلى أن يضم صوته إلى صوت بدوي وهو يصفها قائلا:( هي أفكار وخواطر ليس فيها من جديد إلا الاخلاص في التعبير عنها).
والحق إن بيرن لم يكن عميقا في أفكاره إنما كان حادا في انفعاله وإحساسه لذا لم يكن مفكرا ممتازا أو شبه ممتاز فكان غوته صادقا كل الصدق حيث قال عنه:( إنه حين يفكر يصير طفلا).
لن يستغرب القارئ هذا أو يستهجنه اذا ما قرأ بايرون بتمعن, لكن جمال أفكاره وشجاعتها بالتأكيد يبرران سبب استمراره في وجدان الشعر العالمي كأيقونة متفردة قادرة دائما على قول كلمات مدهشة فيها حسن تنبؤي لا يتميز فيه غير عباقرة الكلمة عن نابليون ذكرت الأسفار:(أنت فاتح الدنيا وأسيرها معا!إنها لا تزال ترتعد منك وإن اسمك الرهيب لم يتردد في عقول الناس مثلما يتردد الآن, وقد دالت دولتك ولم تعد بعد شيئا اللهم الا أن تكون ألعوبة في يد الشهرة هذه الشهرة التي ناغتك من قبل وصارت خادمة لك ومتملقة لقسوتك وصولتك حتى صرت تنظر إلى نفسك كإله: أجل لقد تبديت على هذا النحو أيضا في عيون هذه الأمم المشدوهة التي أذهلتها فحسبتك طويلا في نظرها كما أنت في نظر نفسك.