لعل أبرزها (أميريكانلي), أمري كان لي لصنع الله إبراهيم, فإن تلك الصورة- المستأنفة- لا تختزل (الاغتراب في الثقافة العربية, وكشف متاهات الإنسان العربي بين الحلم والواقع), وإنما تفتح المجال لمساءلة (المنتج) الروائي في كلية تذهب لاستقراء درس الفن أولاً, ومعنى مقاربة الواقع بشقه الفضائحي, وأسلوبية القراءة الروائية وليست الراصدة فقط.
في هذا السياق تأتي رواية شيكاغو للكاتب المصري علاء الأسواني الذي سبق وأن أصدر مجموعتين قصصيتين هما أوراق آدم عبد العاطي, ونيران صديقة, وعمارة يعقوبيان الرواية الفيلم الأكثر جدلاً لجهة أنها نكأت المسكوت عنه مجتمعياً وأخلاقياً وفكرياً, ولكننا لا يمكن أن نضع كلتا الروايتين في سلة واحدة, وإن خرجت الأخيرة من معطف الأولى, ذلك أن رواية شيكاغو قد رسمت خطتها الروائية على خلفية دراسة الكاتب للطب في جامعة إلينوي بشيكاغو, أثناء تلك الفترة تركت رؤيته (الأمريكان يبحثون في الزبالة عن أشياء يأكلونها) انطباعاً ما, دفعه للذهاب كل سبت وأحد إلى الجمعيات الشيوعية, وجمعيات العدميين, والاختلاط بالمهاجرين من كل الأعراق والقوميات والاتجاهات, لا سيما المهاجرين المصريين.
لكن ذهابه إلى الرواية, ليقول بالاغتراب المصري في الولايات المتحدة الأميركية, روائياً ذلك ما يدفع بأسئلة إضافية تدور في ذهن المتلقي, حول استيهامات المكان- شيكاغو- وجدله مع الحقائق والوقائع اليومية, يبدأ الأسواني من هوية شيكاغو واكتشافها عام 1673 على أيدي رحالة وصانع خرائط... وراهب وما جرى فيها من حروب للمستعمرين البيض وإبادتهم ل (12) مليوناً من الهنود الحمر فضلاً عن وصفها كأهم مدينة في الغرب, ودلالتها الأدبية وبشيء من المجاز الشعري: مدينة الريح, مدينة القرن, مدينة الأكتاف الكبيرة... وهكذا, ليقدم توطئة تاريخية على قدر من التشويق تعزّز فضاء القارىء وهو يتعرف على الشخصيات ذات الأقدار التراجيدية. يقول الكاتب في استهلاله (شيكاغو): (قد لا يعرف الكثيرون أن شيكاغو ليست كلمة إنكليزية, وإنما تنتمي إلى لغة الألجنوكي, وهي إحدى لغات عديدة كان الهنود الحمر يتحدثون بها.. معنى شيكاغو في تلك اللغة (الرائحة القوية) والسبب في هذه التسمية أن المكان الذي تشغلة المدينة اليوم, كان في الأصل حقولا شاسعة خصصها الهنود الحمر لزراعة البصل الذي تسببت رائحته النفاذة في هذا الاسم).
ليدخل في رسم شخصياته وملامحها بدءا من شيماء محمدي الطالبة المتفوقة في كلية طب طنطا والتي جاءت أميركا لأسباب عديدة ثم تعرفها على طارق حسيب الكثير الارتياب الذي يتعلق بشيماء وتتطور علاقتهما لتحمل منه وتقرر التخلص من الجنين دون أن ينسى الكاتب أن يضع اللحظة العشقية بكل تفاصيلها أمام القارئ وصولا إلى أحمد دنانة الانتهازي الخائب (المتأمرك) وشخصية الدكتور رأفت ثابت الذي تزوج من أميركية وأنجب منها سارة التي تقع في عشق مدمن ( جيف) يلاحقها الأب وهو يعيش صراع بين ثقافتين ونمطين من السلوك والحياة الدكتور محمد صلاح المتزوج من أميركية وهو يعيش صراعا بين واقعه وذكرياته مع فتاة أحبها ثم شخصية ناجي عبد الصمد الذي نراه في اليوميات والمذكرات المكتوبة بخط أسود مائل كسرد مواز يغلب عليه التقطيع المونتاجي كتقنية ولكنه لم يستغل بالمعنى الفني علما أن ذلك المستوى من السرد يمكن له أن يستثمر جماليات تستبطن لاوعي الشخصيات وليس وجهة نظر الكاتب ( الكلي القدرة) بسرده الحيادي أو تبئيره للشخصية وشخصية ناجي عبد الصمد النموذجية تقف على خط واحد مع شخصية الدكتور الأميركي جون غراهام الثوري الذي يحارب من أجل حقوق المصريين وما يجمع تلك الشخصيات فضاء قسم الهسيولوجي ( علم الأنسجة) وهي تتضافر بجهودها لتحصل على الدكتوراه في ذلك القسم النادر وعلى ذلك تبدو شيكاغو نصا طويلا ( 453) صفحة على القارئ أن يقطعها, ليس سائحا وإنما باحثا عن الرواية, فشيكاغو من داخلها ليست فقط تلك المقولات الثابتة التي الفناها هي ذلك الصراع بين الحقائق والوقائع التي لم نألفها وهي بالطبع خارج ما نعرفه عن التقارير الصحفية ووجهات النظر الثابتة بمعنى أن قبح المجتمع الأميركي ما يعادله سرديا هو رؤية من الداخل عميقة لاتقارب السلوك بقدر ما تقارب الذهنية الحاكمة ولا تقارب المتداول بل تفحصه وتذهب فيما وراءه لتثري معرفة وتضيء المتضاد المتناقض بيد أن القول بالتشويق ليس معادلة (كثرة المبيعات) أو ( تعدد الطبعات) بل أن النص يتلقى بحسب استجابة القارئ ثقافته, مكانته, بحثه عن فجوات العمل, فقد أراد الروائي الأسواني برواية واقعية أن يقول كل شيء أن يكشف كل شيء, يذهب في رحلة سيكلوجية في مركب شخصياته بطريقته الخاصة القديمة / الجديدة في مناوشة التابو ( الجنس, الدين , السياسة) لكنه في مساره الحكائي تخفف من تقنيات احتاجت لها شيكاغو ما خلا السرد والوصف والحوار في الغالب الأعم السرد التقليدي بلغة طيعة لاجهد فيها أو مجاز نضر - يجعل مثلا من سرد المشاهد الحسية الجريئة انفتاحا للغة بجماليتها خارج المباشرة التي لم يحتجها ميلان كونديرا أو هنري ميلر مثلا فيما ذهبوا اليه في معظم أعمالهم الروائية هنا إشكالية مثيرة تعني الفن وتعني الواقع على مستوى التفاصيل السيكولوجية للشخصيات وعلى مستوى مقولة العمل خارج المباشرة السياسية صحيح أن الكاتب بدا متسقا في وجهات نظره لكنه أثقل شخصياته بها فظلت على السطح تماما رغم خفتها وغياب عمقها النفسي ومجازها الحياتي ونهاياتها الساذجة وإهدار منولوجها الداخلي.
شيكاغو, كان يمكن لها أن تكون رؤية في نقائض وأضداد مجتمعين تقوم بمعادل موضوعي هو الفن خارج برهاته ( الأيروتيكية) أو الشعاراتية المألوفة ولأجل شخصية روائية فارقة لا تعبر ذاكرتنا مجانية.
يمكن للقارئ أن يستجيب عاطفيا لشيكاغو ولكن رصيد الاستجابة هو ما يمكن أن توفره الرواية من معلومات نفسية هكذا ترسى دعائم الحقيقة عن التجربة بالمعنى الإنساني أو الروائي فقد كان السيميائي الروسي جوري لوتمان يؤكد على الدوام ( بأن الجمال هو المعلومات) ترى فهل ردمت ( شيكاغو) كل الفجوات - المحتملة- بمعنى أنها كثفت روائيا بمعدن المعلومات النفيس لما فعل هنري جيمس وسواه هنا تفارق شيكاغو عمارة يعقوبيان المضبوطة في توريتها وليس في كشفها فحسب!.
الكتاب: شيكاغو.
الكاتب : علاء الأسواني.
الطبعة الثانية .2007
إصدار الشركة المصرية للنشر العربي والدولي - دار الشروق - القاهرة - مصر