تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


غناء.... أم غثاء?

آراء
الأربعاء 28 /3/2007
محمود الجمعات

انصرف الجميع إلى النوم وخلت ردهة بيتي من قفزات الأحفاد وغابت عن الأجواء زقزقاتهم وهدأت أصوات مشية آبائهم وأمهاتهم وهم ينتقلون بين غرفهم والمطبخ الذي كان يرسل إلى

أذني صيحات الصحون الممزوجة بأنات كؤوس الشاي وشكوى صنبور الماء الذي تعب لكثرة ما أسالوه فوق وجوه هذه الأطباق وفي بطون تلك الحلل وهاتيك الأكواب..‏

ونشر الصمت أجنحته على المكان... فما عدت أسمع إلا صوت أقدام عقرب الساعة المعلقة على جدار غرفتي... يشعرني بثقل الوقت الذي ينوء بكلكله على صدري لا يبرح مناخه إلا بعد أن أحسب أن بين الخطوة والأخرى لعقرب الساعة دهراً... وفجأة خرجت إلى الشارع.... وكان الليل قد انتصف...‏

فوجدتني قد صرت في فضاء رحب بلا جدران ولا ضيق... فالوقت ربيع... عطره ينصب في زوايا الأزقة ويطير مع الصبا يشرح صدور متنشقيه.. والذي زاد من إزاحة الكرب واتيان الفرج.... مصادفتي لصديق قديم... هو تربي وزميلي منذ الطفولة.... ولكن الزمن في كثير من الأحيان يجعل القريبين شتيتين لكنه يتكرم أحياناً أخرى فيجمعهما بعد أن يظنا (أن لا تلاقيا)..‏

وهذا ما كان من اجتماعي بهذا الصديق القريب الشتيت.‏

تمشينا تحت ضوء القمر وساقتنا أقدامنا إلى التلة الواقعة شرقي القرية والمسماة عند أهلنا(المرجة) وفعلاً هي هذه الأيام (مرجة) وبعد سلام المشوقين المتلهفين وشيء من استرجاع الذكريات وخوض في بحر الماضي... حطت بنا سفن الكلام على شاطىء الحاضر...‏

وكان صديقي هو المبادر... قال: ألست مسؤولاً مهماً في الإذاعة?... قلت له كنت... فقال.... يا صديقي المسؤولية ليست فقط من خلال مكتب تجلس وراءه... وأمامك لافتة صغيرة كتب عليها اسمك ومركزك.... وهي بالتالي ليست قراراً يجعلك مديراً أو رئيساً لقسم أو دائرة فإذا أعفيت منه تبرأت من المسؤولية... إن المسؤولية يا صديقي عقد مبرم بينك وبين نفسك يجعلك غيوراً على مصالح من حولك.... في بيتك في عملك... حتى في هذا الطريق الذي سلكناه معا وقد رأيت بأم عينك ما حل به من أخاديد وحفر تجعل من يسير على قدميه معرضاً للسقوط والأذى كل بضعة أمتار ناهيك عمن يركب سيارة أو دراجة أو أي آلية أخرى... عدا عن العتمة التي مررنا بها حيث كثير من المصابيح آثرت العمى عن البصر احتجاجاً على عمى المسؤولين عنها...‏

المسؤولية يا صديقي خلق عظيم يتخلق به العظماء حتى يصير طبعاً لا يغادر نفوسهم.. يدفعه دائماً للبحث عن مصالح الآخر قبل التفكير بأغراضهم وأمورهم الشخصية ويبعدهم عن الأنانية والنرجسية... يجعلهم ممن (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).. وأفقت من ذهولي بعد هذا الدرس الذي نفتقر إلى الكثير من مدرسيه هذه الأيام وسألت صاحبي: ولكنك بدأت حديثك بالسؤال عن مسؤوليتي في الإذاعة فإلام كنت تتجه وإلى أين تريد الوصول?‏

قال: إن المرء يحار بأمركم أنتم أيها المعنيون بإعلامنا المرئي والمسموع... ولن أتوسع في حديثي... لن أطلق لنفسي العنان سألجمها عند حد معين.... سأتوقف عند موضوع أراه من أخطر ما يواجه شبابنا هذه الأيام.... ( ولم أشأ مقاطعته حيث التزمت أدب الاستماع وتركته يتحدث ويتابع) من كان يظن في يوم من الأيام أن إذاعتنا مثلاً... تنسى واجبها تجاه مستمعيها الشباب وهي الأمينة دائماً على ذوقهم والحريصة على رهافة حسهم... فتتحول إلى الجهة المعاكسة لواجبها لا لا يا أخي لا تقولوا... هذا ما يريد المستمع منا ويجب إعطاؤه إياه...‏

فأنتم المؤتمنون على نظافة هذا الجيل وصفاء فكره ونقاء اعتقاده وسلامة ثقافته فلا تحولوا الأمر عن وجهته فهل يجوز بعد أن كان ما يذاع عندنا من الطرب الأصيل الموجه للروح وليس إلى الجسد والمستند إلى جذورنا وتراثنا.... يتحول إلى غثاء.. كزبد البحر.. يتشكل مع كل موجة... ثم يضمحل ويزول بمجيء الموجة الأخرى... وبعد أن كان ما يذاع للعزة الوطنية وللمجد والنيل يصير للشهوة والغريزة... ولا أعني أن هذه الظاهرة هي حديثة الولادة بل تعود إلى عدة سنوات خلت ولربما إلى أكثر من عقد... فقد واكبتم تماماً هجمة الهبوط في الغناء العربي والإسفاف في إنتاج هذه الأغنيات كلمات وألحاناً... صوتاً وصورة منذ البداية وبالتدريج وما زلتم تواكبون. كل ذلك جاء تقليداً للأجنبي الذي يحتفل كل يوم بعودته إلى ديارنا بعد أن احتفلنا عقوداً بجلائه عنا... الأجنبي الذي خرج من باب فتحته أمامه سواعد المجاهدين الثوار في أمصار وطننا الكبير عاد إلينا الآن.... من شباك عولمة الثقافة... ممهداً الطريق ليدخل مجدداً من باب الحرب والقتل والتدمير كما يفعل في العراق وفلسطين.. ويتربص بنا الدوائر ليدخل إلى أقطار أخرى.‏

فإذا كنتم تحسبون أن إطلاق الغرائز من ضرورات التقدم ولوازم الحضارة وتركتم هؤلاء الشباب الذين لا يحتاجون إلا إلى قليل من النصح والتوجيه والإرشاد أقول إذا تركتموهم وأهواءهم وغرائزهم, فإنكم ستندمون, بل سنندم جميعاً (ولات ساعة مندم) إذا تزايدت المصائب غدا وتتالت الأحداث وسنتلفت نفتش عن حماة الوطن وذادة الحمى فلا نجد إلا شباباً رخواً ضعيفاً لا يصلح إلا للرقص والغناء, وليس لديه إلا ثقافة الفيديو كليب, غذاء روحياً وثقافة الهمبرغر طعاماً جسدياً.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية